مثل شائع في دارفور يقول إن من علامات الساعة أن يقتل الفوراوي النفس، فشعب الفور مجبول على التسامح وقبول الآخر والجنوح للسلم والبعد عن أسباب الحرب، وقبل عقدين من الزمان قبيل اندلاع حرب دارفور بسنة واحدة، زرنا جبل مرة نحن معلمو المدارس الثانوية العليا، وكانت الابتسامة لا تفارق وجوه النساء والأطفال والشيوخ السبعينيين والثمانينيين، في نيرتتي ونلمي وطور ومرتجلو وقلول، حيث الطبيعة الساحرة وغابات المانجو والقريب فروت واليوسفي والبرتقال والموز، وجميع الخضروات، فالإنسان ابن بيئته، فمن سكن الصحراء بطبيعة الحال يكون صحراوي الطبع، ومن قطن ضفاف الأنهر والأودية فسجيته السكينة والاستقرار. لقد لاحظت ومن واقع احتكاكي بشعبي الفور والهوسا أنهما يشتركان في خصائص كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، الميل للسلم والتمتع بالطاقة الكبيرة المسخرة للانتاج وحبهما للمرح والطرب، وفي حياة الناس عموماً يكون الرجل المسالم النائي بنفسه عن العنف، هو نفسه ذلك الحليم الغاضب عندما تتكالب عليه الأمم، وحينها لا يجدي معه (التحنيس) ولا الرجاءات والوساطات الداعية لرأب الصدع، وذات الخصائص النبيلة تجدها في شعب النوبة الجميل المحب للحياة، والمحافظ على واحدة من أشهر الموروثات الكوشية العريقة – المصارعة، والهوسا من فرط كراهيتهم للشر لا يحتفظون بحيوان الكلب الأليف في بيوتهم، ولا يسمحون للكلاب الضالة عبور حواري وأزقة مساكنهم. ثورة الهوسا تؤكد على أن سيل مؤامرات عسكر الإنقلاب قد بلغ الزبى، خاصة بعد أن كشف أحد ممثلي هذه القومية الطيبة المسالمة حقيقة أنهم قد أشاروا لبوادر وميض نار هذه الفتنة قبل أن تقع، وأعلموا مكتب قائد الإنقلاب (رئيس البلاد بحكم الأمر الواقع) بذلك، إلّا أن قائد الإنقلاب لم يحرك ساكناً حتى جرفت سيول الدماء جثث الضحايا في الدمازين وما جاورها، إنّه استرخاص لروح ابن آدم الذي كرمه الله وحمله في البر والبحر وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، لكن يبدو أن الإنقلابيين مثل الحمار الذي يحمل أسفارا، يصدّعون رؤوس من يحاورونهم ليل نهار بإيراد عشرات الأحاديث النبوية الشريفة والآيات القرآنية الكريمة، ولا يعملون بها ولا يعلمون أن تكريم الله لبني آدم جاء شاملاً، وأن حياة الإنسان يجب أن تكون مصانة مهما كانت الأسباب، فهبّة الشعوب المسالمة وانتفاضتها لن تجيء مصادفة، هذه المكونات المجتمعية الرافعة لغصن الزيتون عندما تصرخ اعلم أن الأمر جلل، وافهم أن الإفلاس هو حقيقة القائمين على شئون إدارة الدولة، فحينما تنمو الأشواك بين أغصان أشجار العُشر، تيقّن أن الساعة آتية لا ريب فيها، فهذه الأمور يعلمها أهل العلم اللدني الباطني، لا الماديين المترفين باستعلاء الخطاب النخبوي الفوقي، فأهل البادية يجهّزون أحوالهم لو اعترى موسم الخريف (صبنة من صبنات المطر)، ذلك التقليد القديم قدم معرفتهم بنجم سهيل الذي أصبح قمراً صناعياً يجوب مدارات الأرض. لماذ يجب أن يهاب ويحذر الحاكم من العاصفة الغاضبة للحليم المسالم عندما يُستفز؟، لأن تاريخنا السوداني المعاصر حدّثنا عن أن المهدي حينما كذّبه أهله توجه غرباً، وأن الدكتور جون قرنق ديمابيور عندما خانه ابناء عمومته الجنوبيون – وليام نون وكاربينو كوانين دينق والدكتوران رياك مشار ولام أكول، قام يوسف كوة مكي وقومه بإسناده، وحينما باع مني أركو مناوي القضية الدارفورية في أبوجا، وقف عبد الواحد (ألف أحمر) أمام المساومة القاصدة إلى التنازل المخزي عن قضايا النازحين واللاجئين، فهؤلاء الأقوام المسالمون لا يبحثون عن السلطة الدنيوية الزائلة ولا الإمارة ولا النظارة، إنّهم أقوام يعشقون الأكل من عرق الجبين ورهق الساعد القوي الأمين، وكل ما يحاك حولهم لا يعدو عن كونه تربص وإصرار وترصد بحقهم، لأنهم أصبحوا معادلة إجتماعية وإقتصادية وسياسية يصعب ويستحيل تجاهلها أو إهمالها، في خضم هذا الرحم الهائج والمائج بإرهاصات تخلق ذلك الجنين القادم بقوة، والذي سوف يعبّر عن ملامح كينونة الدولة السودانية الجديدة، الذي يرتدي للون البنفسج واللذي سوف يعتلي خشبة مسرح الهويّة. فمن بعد قرنين من الزمان لا يستطيع أحد أن يعيد عجلة التاريخ للوراء، فإما أن يُسلّم هذا الكائن بحتميات صيرورة مآلات التفاعلات الاجتماعية والإقتصادية التلقائية، وإما أن يرجع إلى الوراء والجلوس على مؤخرة البص ليحجز مكانه مع مقاعد المشاغبين والخارجين عن القانون.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة