في التاسع من يوليو الحالي مرت علينا ذكرى إستقلال جنوب السودان، رفرفت الأعلام على أسطح المباني بالعاصمة الجنوبسودانية جوبا، وبعواصم ولايات الدولة الوليدة، ففرحة الجنوبيين بوطنهم الجديد في كل يوم عيد وطني جديد يقابلها حزن عميق وحسرة مؤلمة، في نفوس الوطنيين الوحدويين الشماليين الأحرار، الذين يذرفون الدمع السخين كل عام في مثل هذا التوقيت الموافق لعيد الإستقلال الجنوبي، حيث لا تنفع الحسرة ولا يجدي الندم على ما انطوى من ذكريات جميلة ومآسٍ حزينة لحرب لعينة، راح ضحيتها أكثر من ثلاثة مليون مواطن جنوبسوادني، لم يكن الحزن الذي خيّم على قلوب السودانيين حينها مقتصراً على الجنوبيين لوحدهم، بل شاركهم في المأتم الكبير الأرتريون والأثيوبيون والكينيون واليوغنديون والتشاديون، لقد بكى صديقي التشادي المستشار القانوني لأحدى كبريات الشركات العقارية بإمارة دبي، أشد البكاء لذلك الأمر الجلل، وخيّم البؤس على رؤوس أصدقائي الأرتريون الذين جمعتني بهم دروب الغربة في ذلك المقهى العتيق، وارتسمت الدهشة على جباه التجار القادمين من شرق ووسط وغرب افريقيا، لما للخبر الصاعق من وقع عظيم القوة (الرخترية) على الأنفس. إنّ إستقلال جنوب السودان هزّ كيان كل إفريقي يصبو لتحقيق حلم الولايات المتحدة الإفريقية، وترك جرحا عميقاً بوجدان كل سوداني وحدوي يعشق تراب الوطن بكل شراسة وجنون، لكنها تصاريف الأقدار وألاعيب شياطين الإنس من الطرفين. العاملان الرئيسان اللذان أدّيا لذهاب الجنوب إلى حال سبيله، هما الهوس الديني والهوس العرقي، فبمقدم سيئة الذكر حكومة إنقلاب الجبهة الإسلامية (المتأسلمة)، ارتفعت وتيرة الكراهية الدينية من بعض سكان الشمال المسلم تجاه الجنوبيين الذين يدين أغلبهم بالمسيحية، فاستغل المتأسلمون العاطفة الدينية لاشعال حرب عشوائية جعلت الدين مطية، فأحرقت المواطن الجنوبي بحجة هوس عشعش في رؤوس الشباب المغرر بهم، الذين غشّهم دهاقنة الجبهويين بأن قتل المواطن الجنوبسوداني يُمثّل أقصر الطرق لدخول الجنة التي عرضها السماوات والأرض، سخّرت دويلة الهوس الديني كل طاقاتها وسلطانها لمسح الشعب والأرض الجنوبية، وسرعان ما جاءت النتيجة الطبيعية لذلك العسف بأن انفصل عضو أصيل من جسد الأمة السودانية. أما الهوس العرقي فقد بدأت معاركه ضد الأشقاء الجنوبيين منذ ما قبل فجر الإستقلال، ودوافعه وهم العروبة الزائفة التي ابتلينا بها نحن الشماليون في بورتسودان وحلفا والخرطوم والأبيض ونيالا، العروبة التي من أجل نصرتها قام المرحوم الطيب مصطفى بذبح ثور (أسود) احتفالاً بخلاصه من (السرطان) كما كان يزعم، وبحسابات الربح والخسارة لن أقول أن شمال السودان قد خسر تسعين بالمائة من إيرادت البترول، بل أقول إنّ الشمال السوداني العريض خسر إنساناً فاخراً وذاخراً بالعطاء والتفاني من أجل الوطن الأم، وليست هنالك خسارة أكبر من أن يذهب ربع السكان لحال سبيلهم. العبرة من هذه الحسرة التي أصابت الوحدويين الصادقين الخُلّص من ابناء السودان، وطافت بخيالهم منذ أن (فرز الجنوبيون عيشهم) نتيجة لانفصالهم الأليم عن شقهم وشقيقهم الشمالي، هي ضرورة التوقف والتفكر والتدبر والتمعّن والتركيز، في الحكمة والموعظة الحسنة التي جاء بها المثل السوداني البديع: (الجفلن خلهن أقرع الواقفات)، فبالحسابات الإقتصادية والمالية و(الاستراتيجية)، هنالك مورد بشري هائل وملايين رؤوس الماشية، والآلاف المؤلفة من أطنان الصمغ العربي وخام اليورانيوم ومادة الكوارتز والذهب الذي جعل رأس البرهان يذهب، والنحاس ونسبة مقدّرة من الأراضي الزراعية الواسعة والمساحات الغابية الشاسعة، والثروات المعدنية الأخرى المهددة بذات المصير الذي آل إليه الجنوب، والحياة البرية وثرواتها العظيمة التي هربت إلى إفريقيا الوسطى وتشاد من جحيم الحرب، وبعد كل هذا وذاك نرى تحت التراب وميض نار جراء ضرب إسفين الهوس العرقي والجهوي مرة أخرى، وبنفس وتيرة ومنهاجية الراحل الطيب مصطفى، من أناس آخرين ذاهبين على ذات الدرب الجهوي والخط العرقي الذي لا يخشى عواقبه إلّا الذين تبقوا من هؤلاء الوحدويين الوطنيين الشرفاء، الذين يتوقعون أن يكون لناره ضِرام. إنفصال – إستقلال جنوب البلاد ما زال يمثل لنا – جنوبيين وشماليين - الدرس الأقسى والإمتحان الأصعب والتحدي الأوحد في مسألة بناء الأمة والدولة الوطنية الموحّدة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة