عندما بدأ التوتر يطفوا إلى السطح ما بين الولايات الأمريكية الشمالية الرأسمالية، والولايات الأمريكية الجنوبية الإقطاعية المعتمدة على العبيد، قامت هذه الاخيرة بالإمتناع عن بيع القطن. أو ما يسمى ب(القطن الملك). كانت بريطانيا المستورد الأول للقطن الجنوبي، وشكل لها تصرف ولايات الجنوب ضرراً بالغاً، فلجأت إلى دول أخرى وفكرت كذلك في مناطق صالحة لزراعة القطن حتى لا تتعرض للضغط الاقتصادي مرة أخرى في المستقبل، كان السودان إحدى تلك المناطق التي فكرت فيها بريطانيا بعد دراسات استراتيجية متعددة (،سياسية، اقتصادية). لكنها كذلك وبتحالفها مع الولايات الشمالية بدات حصارها على الولايات الجنوبية ثم انقضت عليها وبدأ ما يسمى بالحرب الأهلية الامريكية التي كانت مدعومة من بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر. إن الدول المحترمة تستفيد دائماً من مآسي الدول الأخرى، تماماً كالطبيب الذي يستفيد من مرض الآخرين والمحامي الذي يستفيد من نزاعاتهم وجرائمهم. تعتبر روسيا المُصدّر رقم واحد للقمح وتعتبر أوكرانيا المصدر رقم خمسة للقمح، وهناك أيضاً صادرات أخرى تعتبر فيها اوكرانيا من الدول الأولى كالذرة البيضاء أو عيش الريف.. وتعتبر مصر المستورد رقم واحد لأغلب محاصيل روسيا واوكرانيا. ولو كان السودان دولة محترمة لاستفاد من أي حرب تنشب بين دولتين، ليكون سوقاً بديلاً عندما تتوقف الأسواق الأخرى بسبب الحروب. فالسودان دولة زراعية بلا منازع، لكنها في الحقيقة (شبه دولة). لم تتمتع شبه الدولة هذي بأي تراكمات حضارية تجعل عقول أهلها تملك بعداً استراتيجياً لإدارتها. على العكس من ذلك، فمنذ ما يسمى (كذباً) بالاستقلال وهو في الواقع (تقرير مصير مدفوع إليه مسبقاً ومن الخارج)، كانت كل تصرفات المسؤولين تتسم بعلامات واحدة: (١) القرارات الوقتية غير المدروسة. (٢) خدمة فئة معينة. (٣) كونها رد فعل وليست فعلاً. (٤) عدم الإحساس بالسيادة بل ربما بالدونية. وفي المقابل، كانت الهجمات من الفئات خارج السلطة تتسم بذات الملامح ولا تختلف كثيراً مما اقعد شبه الدولة عن أن تتحول إلى دولة. لقد حكم السودان أشخاص وليس رجال دولة، وهم في الواقع أشخاص جاءوا من ثقافات بدائية أثرت على أسلوب تفكرهم في القضايا والأشياء. وفي الحقيقة هناك وَهْم أدخله فيهم تعليمهم وهو انهم أذكياء جداً، اذكى من بني جلدتهم، خلافاً للحقيقة. لقد كانوا بلهاء ولا زالوا بلهاء مع كامل الاحترام فأنا أصفهم ولا أسبهم. إننا اليوم لا نختلف كثيراً عن ما كنا عليه قبل ستين عاماً. إن الإنسان البدائي من المجتمعات البدائية إنسان متمحور حول ذاته self centered، ويعاني من شعور كبير بالنقص لذلك نرى الهجمة حول السلطة في محاولة لإثبات وجوده أمام الآخرين (القبيلة، الأسرة، الأهل). فيكفيه أن يحصل على اسم وزير وليس (منصب)، ويرتدي ربطة عنق ومعه حرس ليفقد عقله ويبدأ الآخرون بدورهم في اقتناص أخطائه والحفر له وتدميره. لقد قام البشير في عهده بإكتشاف هذه المشكلة النفسية، ولذلك بعد انتهاء ما يسمى بالخوار (وليس الحوار) الوطني قام بتعيين الجميع في البرلمانات والوزارات، وكذلك قام البرهان بتعشيم الجميع بأن يكونوا أصحاب مناصب، فتهافتوا إليه بالمبادرات، وكل مجموعة حالمة نصبت أحدها رئيس وزراء في منصب لم يوجد بعد. المشكلة الكبرى أن إدارة الدولة ليست مسألة بسيطة كما يعتقد هؤلاء الحالمون؛ فإدارة أشباه الدول (اي التي لم تستقر مؤسساتها بعد ولم تمتلك تراكمات حضارية) هي كالقيادة في الظلام. لكن هؤلاء لا يفهمون ذلك. إن اشباه الدول بها صراعات (شخصية وإثنية) عميقة، وعندما نتعامل مع شعوب يشعر تسعة وتسعون في المائة من أفرادها أنهم صالحون ليكونوا حكاماً بما في ذلك الزبالين والبوابين، فنحن إذاً نتعامل مع أحقاد ستطفوا إلى السطح باستمرار في أشكال تبدوا وطنية في الظاهر ولكنها تبطن السوء والتشاكس. كذلك يعتقد البعض أن إدارة أشباه الدول تحتاج لتكنوقراط، وهذا أيضاً خطأ فادح، فالتكنوقراط بما فيهم دارسو الإدارة والاقتصاد، ليسوا بالضرورة قادرين على إدارة الدولة إن لم يتمتعوا بإلمام كامل بتعقيداتها. فالشهادات وحدها لا تكفي إن لم يمتلك صاحب القرار الحصافة اللازمة لحل المشكلات. إن المتعلمين في السودان كانت قراراتهم دائماً خاطئة وفجة وفي الحقيقة كانت تضر بالصالح العام، فوزراء الصحة وهم تكنوقراط كانت قراراتهم كلها فاشلة، ووزراء التعليم العالي ايضاً؛ وهكذا دواليك رغم انه من المفترض أن هذه الوزارات لا يديرها سوى فنيين. وبعد ما يسمى بثورة التعليم العالي في حكم الإسلاميين أصبحت الشهادات العلمية حبراً على ورق بدءً من البكلاريوس وانتهاءً بالدكتوراه، وأصبح كل من هب ودب يملك شهادات علمية، ويتم تعيينه عبر الفئة التي ينتمي إليها (إثنياً) في الوظائف ليتعلم الحلاقة بالممارسة، حتى لو تضررت فروة شعر الآخرين. هذه الكارثة أفضت إلى أننا لا يمكن أن نجد معايير حقيقية لاختيار التكنوقراط، فالمشكلة اعمق من هذا التسطيح الذي ينعقون به يومياً. إن مشكلة شبه الدولة هذي أكبر مما يعتقد البعض من العاطفيين الذي يميلون إلى إطلاق المصطلحات الرنانة السهلة.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 02/25/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة