معاناة الباحث الجنائي في السودان وباقي الدول البائسة (عربية أو إفريقية) لا تنتهي. وخاصة عندما يتعلق البحث بالمعلومات الجنائية؛ من إحصائيات ومضابط ومحاضر. المحامي نفسه (صاحب القضية) يعاني فما بالك بالباحث الذي لا علاقة مباشرة له بالقضايا الجنائية. من ركيزة الفساد في السودان أن يسند الأمر إلى غير أهله، أتذكر في إحدى القضايا أن جاء أحدهم كخبير في مؤسسة جنائية، وبسؤاله عن خبرته تبين أنه تلقى (كورس) في الكيمياء لمدة ستة أشهر في الهند. هذا كل ما يملكه من مؤهلات. ولا شك عندي بأن هذا الكورس نفسه تم بإيعاز من حكومة السودان لأحد أقارب شخص نافذ، ليتم تعيينه في ذلك المنصب. لذلك فكيف لمثل هؤلاء أن يطوروا العمل الجنائي، وهم أنفسهم غير متطورين ولا يملكون التأهيل الكافي للتطوير. لذلك يعاني البحاثة من إخفاء المعلومات الجنائية (على قلتها وضعفها)، من إحصائيات البلاغات الجنائية، وما حكم فيها وما لم يحكم، وبخريطة التوزيع الجغرافي والدموغرافي للجريمة،...الخ. رغم وجود قانون حرية المعلومات، لكن كل دائرة حكومية تصنف أعمالها تصنيفاً عالي السرية، رغم أنها معلومات عادية لو كنا في دولة محترمة. لكن لأن أصحاب كورسات الكيمياء هؤلاء يعتقدون بأن ما يملكونه من الخطورة بحسب إتضاع معارفهم، فإنهم يضعون المعلومات داخل الأدراج. لذلك لا مندوحة من القول بأن أغلب الأبحاث الجنائية (ماجستير ودكتوراه، وأبحاث محكمة) مجرد أبحاث تافهة اجترارية بحيث تعيد ما تم دراسته من قبل، ليس في المؤلفات المتعمقة، بل حتى في كتب الشروحات العامة. وعلى ضعف الأبحاث الجنائية فإنها قليلة، ورغم ذلك نجد مئات البروفيسورات والدكاترة، ولا أعرف أين انتاجهم العلمي؟ فنادراً ما ألتقي ببحث علمي محكم لباحث سوداني في المجلات القانونية المختلفة. والمكتبة القانونية عندنا بائسة والانتاج لا يرقى لمستوى أصغر دولة من الدول العربية والإفريقية. الأبحاث القانونية العربية تتصدرها مصر والجزائر والمغرب، أما الأبحاث القانونية باللغة الإنجليزية فتتصدرها جنوب إفريقيا ثم نيجيريا وزمبابوي.. لقد عانيت معاناة كبيرة لأكتب بحثي عن الجغرافيا الجنائية، ولم أجد أي شخص يوفر البيانات الجنائية، فالإنسان السوداني لديه شعور بأن كل ما يعرفه شيء خطير، حتى لو كان معرفة وصفة طبخ القدوقدو، وهذا بسبب ضعف التراكمات الحضارية التي تفصل الإنسان عن المؤسسات، فالمؤسسات هنا شخصية، فالوزارة تعني الوزير وتنتمي إليه وليس العكس، والشرطة تعني الشرطي وليس العكس، والنيابات تعني النائب وليس العكس، ولذلك يقضي الناس أمورهم وحوائجهم (ليس عبر المؤسسية والمؤسسات)؛ بل عبر العلاقات الشخصية لمن ترتبط تلك المؤسسات بهم. في المقابل، تتدفق تحت يدي البيانات الجنائية من شتى أنحاء العالم، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، تتدفق حتى تصيب الباحث بالصدمة والملل. إحصائيات في كل شيء يتعلق بالعدالة الجنائية. التوزيعات الدموغرافية للجريمة، الإحصائيات الإقتصادية للجريمة، خرائط الإزاحة الجنائية،..الخ. ويتم تحديث تلك البيانات باستمرار، بحيث لا يكون أمام الباحث إلا أن يجلس ويبدأ عمليات الربط والتحليل ومن ثم الخروج بنتائج لها قيمتها المعتبرة في خدمة العدالة الجنائية، سواء بمكافحة الجريمة أو منعها أو التطوير الإداري لمؤسسات العدالة والعمل الشرطي..الخ. نحن شبه دولة بائسة، لا يضرها عدو من الخارج بل يضرها شعب صنمي العقل، ضحل التفكير، أنَّى وجهت وجهك لا تجد فيه إلا العنت والفجاجة، وأنَّى وجهته هو نفسه لا يأتك بخير. اللهم أخرجنا من سباطة هذي قادر يا كريم وأجعل بيننا وبينها ردما.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 02/14/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة