بعد ان تفجرت ارض السودان براكين من الذهب تكالبت عليها الامم، وحظيت البلاد بالاهتمام الدولي والاقليمي المراقب لحركات وسكنات الناس وحكومتهم عن كثب، لقد ثار الشعب واطاح برأس النظام وتصدرت المشهد السياسي مجموعة عسكرية وامنية لها ارتباط وثيق بالعهد البائد، وما زالت كشوفات حساب الصادر من هذا المعدن الثمين بعيدة عن اضابير الجهات المنوط بها ادارة المال العام والاقتصاد الوطني، والعالم كله يهرول نحو عاصمة النيلين ليجد موطيء قدم، والقوى المحيطة بالقطر تسعى بكل جهد للحصول على مساحة تضمن لها استمرارية حصتها المتعهد بها لها من قبل النافذين الجدد، والشارع يفور ويمور ويذكرنا بمدلول الآية الكريمة :( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)، صدق رب العباد، فالمليونيات البشرية الهادرة ترعب الحاكم وتحبط المداهن الباحث عن فتات مائدة السلطان، والشباب يقولون: الردة مستحيلة ويرددون اما الوفاء لدم الشهيد او اللحاق به. مع كل هذا الزخم الثوري والصمود الشبابي لم تتوقف الدماء البريئة عن الانجراف والسيلان، فالغرب ينزف والشرق يئن والشمال يذرف الدمع على ارضه التي تنتج الذهب، ولا يرى خيراً قد اتى من بيع البيض الذهبي لدجاجته الساحرة والمسحورة في ذات الوقت، وكلما اشار مؤشر جهاز كاشف المعدن النفيس على بقعة من بقاع ارض السودان، هرول المتحكمون في القرار لتلك البقعة وجعلوا اعزة اهلها اذلة وبسطوا آليات الحفر والتنقيب وشرّدوا المستضعفين ملّاك الارض والتاريخ، إنّه الطمع والجشع البشري الذي اذا غشي نفساً شبعت بعد جوع فعل بها الافاعيل، وحوّلها الى وحش كاسر ونسر جارح يحوم فوق السحب بحثاُ عن جاموسة نافقة ملقاة على ارض بلاد الفقراء، هذا هو الانسان الذي وصفه ربنا في قرآننا الكريم خير وصف ودقق في خصائص نفسه الامارة بالسؤ خير تدقيق، ومن فرط جهل هذا المخلوق الهلوع الجزوع انه لايدري بانه هو الكائن الاوحد على ظهر هذه البسيطة، الذي يسعى ويكد ويجتهد لأخذ الامانة وتكبد مشاق مسؤولياتها الجسام حتى قال عنه الخالق العظيم:( إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)،صدق جل جلاله. جيل اليوم يعي ويعلم ويعرف ان بلاده هي واحدة من البلدان الافريقية المنهوبة الثروات، لذلك ترى الاستمساك المميت بالحبل الموصل لبناء دولة الحقوق المدنية صاحبة المؤسسات المعتمدة على مبدأ الشفافية في الادارة، وثوار اليوم يدركون ابعاد المواجهة مع الجشع المحلي، ويعرفون كيف يتعاملون مع الخبث الماكر الذي يحيط بهم جراء مناورات الدوائر الاقليمية، وبرغم كل هذا التكالب المتعدد الابعاد على ثرواتهم، الا انهم يزدادون عزماً بعد عزم للوصول للهدف المنشود، فالمعارك التي تدار لاجل تغبيش الوعي هي من اصعب المعارك، لأن ادوات مثل هذه المعارك لا علاقة لها بالسلاح الناري الذي لا يستطيع اجتثاث الفكرة من عقل ثائر، ولا يقدر على ايقاف نبض قلب صبي يافع يعري صدره امام فوهة المدفع العملاق، لذلك يكون من المستحيل للآلة العسكرية أن تهزم المشية الواثقة والالتفاتة المستفزة والصادقة للثائر الشاب، الذي يواجه هذه الآلة الفاتكة بابتسامته الصامدة وخطواته الثابتة (الشهيد مروان). الذهب واليورانيوم في السودان لن يكونا اغلى من الانسان، بحيث يتوالى ازهاق ارواح الاتقياء الانقياء في سبيل ان يذهب هذان المعدنان لرفاه شعوب ما وراء البحار، ولتلبية مصالح مجتمعات يفصل بينها وبين ارض السمر مئات الآلاف من الفراسخ الكيلومترية والميلية، لقد فعلها محمد علي باشا ونهب خيرات هذه الارض الذهبية قبل قرنين من الزمان، لكن كانت عاقبته وخيمة حينما اقتلعه اجداد هؤلاء الشباب الثائرين اليوم، وهذه المرة لن تسلم الجرة ايضاً وسيعيد التاريخ نفسه بنسخة محدّثة ومطوّرة. ويُقتلع المفسدون والسماسمرة والمرابون الذين استباحوا هذه الارض الحلوب، ويعود ايراد هذا المعدن النفيس ليبني المدارس ويرصف الطرقات ويقيم المعاهد والجامعات ويؤسس مراكز البحوث العلمية ويفتح المستشفيات، وكل الظواهر الطارئة على سوح المشهد العام اليوم ما هي الّا مخرجات لشذوذ قاعدة المنطق والذوق السليم، والمكان اللائق بها هو مقبرة التاريخ.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة