في جلسة محضورة نظمتها طيبة برس قبل ثلاثة أعوام بالتعاون مع اللجنة القومية للاحتفال بالعيد الماسي لمؤتمر الخريجين، قدم الأستاذان الجليلان محجوب محمد صالح والبروفيسور عبد الله حمدنا الله مرافعة دفاع باهرة وموحية جداً عن الدور الذي لعبته الصحافة في بدء الحراك الوطني وتثبيت أركانه. كانت الصحافة هي مشعل النور ومبعث الوعي ومنصة انطلاق حوارات الفكر والسياسة والثقافة والأدب، منها انطلقت دعوات تعليم المرأة وتحديث المجتمع ومناقشات الهوية والشخصية السودانية بأقلام حسين شريف والمحجوب وأولاد عشري الصديق وحمزة الملك طمبل ومحمد عبد الرحيم وعرفات وأبو الريش وآخرين كثر. من على صفحات الصحف خرجت التيارات السياسية وتكونت الأحزاب وانشقت، منها خرج مؤتمر الخريجين، وفيها تنافس "الشوقيست" و"الفيليست"، وتجرأت في وقت مبكر على قداسة الطائفية وتحدتها، وانتصرت قيم الحداثة بعد أن خاضت أعظم معاركها. ولا تزال الصحافة، رغم كل شيء، تلعب هذا الدور الريادي، حتى أتى وقتٌ وصفها فيه الراحل العظيم محمد إبراهيم نقد؛ بأنها متقدمة على الأحزاب السياسية، بل في حقيقة الأمر أن معظم الأحزاب في بلادنا، بما فيها الحزب الحاكم، تمارس نشاطاتها على صفحات الصحف، بأكثر مما تفعل في ميادين الحراك الجماهيرية الحقيقية. لا يرضى المعارضون والحاكمون عن الصحافة، وهذه طبيعة الأشياء. تمتلئ صفحات المواقع المعارضة بالهجوم على الصحافة لأنها مقيدة ومكبلة ومستسلمة ولا تقدم للقارئ شيئاً، وهذا بعضه حقيقة وبعضه حكم جائر وظالم، ولا ترضى عنها الحكومة وأجهزتها لأنها في اعتقادها تنشر مالا ترضاه وما لاترغب في خروجه للناس، وهذا أيضاً حكم ظلم وجائر؛ لأنه يحول الصحافة إلى مجرد مطية. قلت في عمود سابق، إن أي حكومة وسلطة تنفيذية في العالم، لو ترك الأمر لها، لقامت بتقييد الصحافة، لكن الأمر متروك، في المجتمعات الديمقراطية، للدستور والقوانين والتقاليد الديمقراطية والمؤسسات والمنظمات التي ترعى هذه القيم وتحافظ عليها. ولدينا في بلادنا أطنان من النصوص والقوانين والمؤسسات ذات الصلة بعمل الصحافة، نرضى عن بعضها ولا نرضى عن البعض الآخر، ونسعى ونعمل لتعديل القوانين التي لا تتماشى مع المنطق والحس الديمقراطي السليم، ونعترض على الاستخدام السيء للقوانين، وتلك معركة لن تتوقف ولن تنتهي، حتى تتوقف الحياة. هي مسألة شد وجذب، وحالة توازن قوى، وصراع محموم، لكنه محكوم بالضوابط والنظم التي ذكرناها سابقاً. حين يخرج أحد الأطراف عن هذه الضوابط، ويلجأ لاستخدام سلاح القوة والسلطة، أيا كانت، تدخل البلاد والمجتمع في دوامة لا يبصر فيها الناس شيئاً، وقد تستحيل الأمور إلى فوضى يوم ترضى السلطة عن الصحافة، تماماً، تكون كل منهما قد أوى إلى قبر وسيع، لأن معنى ذلك أن الصحافة تحولت إلى بوق وتابع، وأن السلطة لم تعد ترى إلا ما تريد أن تراه ، وتتعامل مع الآخرين بمنطق "لا أريكم إلا ما أرى". " هذه المادة نشرت قبل سنوات، وقد أَعدتُ نشرها مع بعض التعديلات لحاجة في نفس يعقوب".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة