هذه الصحراء في كامِل مِشمشِها والأرضُ ضاق صبرها، وأهل دارفور حتى ذلك العهد، كانوا على تراضٍ مع عاصمة دولة الصَّحابة في الخرطوم، لأنها وعدتهم بتطبيق الشريعة.. كانت دارفور صافية كضوء القمر في ليلة التّمام. سافرنا ثلاث ليالٍ في التيه، فوق الرمال الزاحفة التي تقع جنوب شرقي جبل العوينات، ذاك جبلٌ مثل الهم في القلب. مررنا على شواهد قبورٍ مات أصحابها ربما عطشاً، لم يُقتَلوا، فالحرب لم تبدأ بعدُ، ولا هذه الصحراء (تترك قتلاً لقاتِل). الصحراء مسرح رحيب ينعق بالجفا فوق الهالكين، والقبور ليست شأن الموتى، بل شأن الأحياء.. الشوق لا يُدارَى، ولكن ما كل شيء تفضحه عين الشمس. سفّاية الرمل لا تحمل على صدرها بِذرة إنسان أو نبات. نجوم الليل وخطوط الريح فوق الكثبان، ترسم وجهة السادرين. دخلنا وادياً من رمالٍ زاحِفة، مساعدية اللواري يعرِّفون الوادي بهذا الاسم- المَطسْ- لأن من يتباطأ عنده يغطس في رماله. السائق أمر مساعدية اللّوري بتنفيس اللساتك، ورمى بإطارٍ ضخم في حُفرة الرمال، حجز به حوافها من الهيلان. هل لهم كنز في هذه الفلاة؟ نزل المساعد في الدائرة، وبدأ (ينكُت) في عمق الرمال. حسبناه يسخرُ منّا حين قالَ، إن الماء على عمق مترين تحت هيّالة الصحراء، بعد أن ناصف الحفرة طولاً، صار يرمي علينا بالثرى.. إنّه الماء يرقد على عمق مترين أو أقل، تحت رمال دارفور الحزينة. تلك الفلاة روَت عطشي.. ظهر الجمَّام وامتلأنا بالرَّواء. عندما بدأ المساعد يحفر بالكوريق، سرت بيننا همهمة من لا حيلة لهم، كنا نظن أن هذا المسكين يستبق الحوادث، ليحفر قبراً لأحدنا. إن كان الله قد سقانا في هذا التيه، فلسوف يلهمنا الصبر على العيش في دولة الأحزان في بلاد السودان. إن شاء يرزقنا ما يُثلج صدورنا، وإن لم يشأ فلا رادَّ لقضائه. شربنا من مَطَسْ الماء المخبوء تحت رمال دارفور. تلك الصحراء كانت مجرىً للنيل في زمانٍ قديم، الآن ذاك الوادي هو ميدان الشِّفتة، أهل السلب والنهب. قال السوّاق: المكان دا، ياما ماتوا فيهو ناس. كان خبيراً بالصحراء. ألقى علينا حكايات مُهشَّمة الأطراف، عن شياطين (تمارَواْ) له في الطريق. نزلنا نحن الرُّكاب مغتربو ليبيا الثورة. نزلنا إلى أرض المعركة، بعضنا يحمل الصّاجات، وبعضنا بالعيدان، كنّا نزقّها تحت اللّساتِك واللوري يحبو في الهيَّالة حتى لا يسيخ في الرمال. اشتغلنا مساعدية. خدمنا اللّساتِك حتى ننجو من المبيت هُناك. قال السوّاق- بطل اللّا جدوى- إنه رأى في أحد أسفاره مارداً أثار العَجاج أمامه، وخاطبه بصوتٍ فيه (نخيخ) أن (يشتِّتْ) من ذاك المكان، وإلا...! استطردنا الأحاديثَ عن شياطين الجن، ونسينا إلى حين، أن شياطين الإنس ينتظروننا في قارعة ذاك الطريق.. لكل صحراء مجنّدوها، وفي كل مكان من هذه الدنيا، عسس.. أينَ المفر..؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة