هذا الليل حزين، وأنا غريب، وغصة فراق القاهرة لم تفارق حلقي.. القاهرة مدينة طاعمة مثل قندولَ عيش..القاهرة كما الدنيا، تدخلها باكِياً، وتفارقها بالعويل. هذا قطار حلفا يحتشد بالمسافرين. أُنثى خُلاسية ذاتَ عكش، يُرفرِف ثوبها بين الجراجير. نساءٌ أعجميات في هيئة داعِش، يتقرفصنَ كالمستحيل في مقاعد الدرجة الثالثة. فى حجورهن وِلْدان و صَبَايَا.. في هذا الطريق ينتظرني غبارٌ، وغربة، ودنيا من الرُطانة. أي بلاد الله تأويك، وأنت بمثل هذا الجُرح؟ ذاك الأصلع النّشِط هو كُمساري القِطار. يضْرعُ الكراسي، ويوقظ النُّعاس، ويقطع ايصالات الغرامة للمخالفين. شُلوخَه السّادة تُنبيك عن استعرابه. هُندامه يوحي بأنه تماثَل للشفاء، بمحَجّته الحمراء، مِن محلّيتِه ضَاربة الجّذور. يبدو من سيجاره، وفريم نظّارته، أنني التقيته في مكانٍ ما، مِن مخابئ خرطوم التُّرُك تِلك.. محطة السكك الحديدية في خرطوم الجِّن، تئز بالصُّناح وأنفاس النّيم. هل باعوها الآنَ؟ شقشق الصبحُ. غدت الطيور من أوكارِها، ولم أشرب قهوتي. قرأت على باب القَمَرة، تعاويذاً حفظتها عن جَدي. استحضرت روحاً قديماً كي تُفتح لي كوة نحو هاتيك النُّسوة ذوات السّواد. قال جدّي، أن المتّوكي الذي يُهاجر من الصعيد إلى برّ السودان، غالِباً ما يكون رقيق الدِّين. حين ذكّرته بالشيخ إدريس ود الأرباب، المَحسي الما كضَّاب، تهلل وجهه وقال، أن ود الأرباب، هو أكبر أولياء السودان.. التقوى في القلوب يا مولاي، وما أحتاجه الآن، هو إذن السّفر. تعاويذِي صَعَدت. تعاويذِي شقّت لي طريقاً، نحو قمرة النساء. الرُّطانة التى لن أفهمها، ستكون حجاباً حاجِزاً. العيون الجميلة تُبدِى شررا. أعلم أني غير مرغوب هُنا، لكنّ القطارَ نفث هواءَه، وبعد هنيهة يعبر كوبري الجيش، وينفخ بوقَه في الصّحراء. هذا القضيب الحديدي كان نابضاً بالحياة منذ بدايات القرن العشرين! من نافذة القطار، رأيت اصطفاف الجُّند داخل الثّكَنات. لا مكان لي في هذه البلاد.. تلحّى العسكر، وطُهِّرت الخدمة المدنية، وداخليّات البَرَكسْ التي آوت حكّامُنا أيامَ عوَزِهِم، تبدو الآنَ مثل شرارِيم قرىً غارِقة. قطار حلفا، أشبه بمستعمرة افتراضية تتبع لدولة النوبة العُليا. تحت عمود الصنفور، رأيتُ خُلاسية في لون الخمر. شعرها ينسدل فتزيحه عن عينيها، و لا يهدأ. تلوِّح بيدِها، وتمسحُ دمعاً بالأُخرى. المدينة تبدي مفاتِناً في ساعة الرّحيل. هل بين هؤلاء السادة الجدد من بات سكراناً، وأهله جِياع؟ هل بين شعوب النوبة، من لا يأكل أُم فِتْفِتْ؟ الخرطوم، المدينة العطشى بين بحرين، أخذت زُخرُفها من ألوان المجَروس. الشيخ يُضاحِك مُجاهديه، ويحدّثهم عن عادِيات دول الاستكبار وعن الحور العين. مصنع كِنانة يُنتِج آلاف الأطنان مِن السُّكر.. يُقال أنّ تلك الأطنان تذوب في جيبِ غرير. مُجنّدون شاحبونَ كأعواد الخيزران يركضون في ماراثون الدفاع الشعبي وهم يتصايحون في جنبات الشّارع: للجنوب طوالي، للجنوب طوالي، وأنا هاربٌ بجِلدي نحو أي بلدٍ يأويني.. akhirlahza
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة