قرأت اللقاء الذي أجراه الأستاذ رمضان محجوب مع الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، رئيس تحالف قوي المستقبل، و نشر في صحيفة " الصيحة"، و لا أريد أن أغوص في اللقاء كله، و أن أتعاطي مع الشأن السياسي، و لكن سوف أخذ من اللقاء فقرات، فيها إشارات فكرية يمكن أن تنقل الشخص من المفردة السياسي كمفهوم متداول، إلي مفهوم يحتاج للتعمق الفكري، من حيث مدلولاتها المستقبلية، مثل قضية الحكمة، و تجربة معرفة لأغوار ما هو مطلوب، و الإصلاح السياسي، و مشروع وطني، هذه المفردات لا أريد أن أخرجها من سياقها، و لكن في ذات السياق حاول العتباني أن يجعلها حمالة أوجه، إذا كانت تؤخذ بطابعها السياسي فهي ذات مدلول مجرد لا تغيب عنه المصلحة المحدودة، أو تؤخذ بمدلولها الفكري، و في هذه الحالة تحتاج للتبصر في كيفية تحقيقها في ظل تعارض التصورات و الاختلافات المنهجية، و لكنها ذات مصلحة عامة تشير للوطن قبل تفرعاته. يقسم الباحث عبد الله البريدي في كتابه " السلفية و الليبرالية: اغتيال الإبداع في ثقافتنا العربية" يقسم المفكرين العرب إلي ثلاثة مستويات. الأول هم أولئك الذين يوجهون تفكيرهم بشكل مباشر إلي المشكلة أو الموضوع محل التفكير. و هؤلاء هم الذين يحملون الهم الثقافي و يشتغلون بالمشكلات الثقافية و يمارسون نوعا من التشخيص العام لتلك المشاكل. و النوع الثاني هم الذين يستخدمون تفكيرهم لا إلي المشكلة ذاتها فحسب و أنما إلي التفكير في " طريقة التفكير" بالمشكلة أي يفكرون في المنهجية و طرائق التفكير. و النوع الثالث هم طبقة من المفكرين توفرت لديهم قدرات فلسفية هائلة تمكنهم من تقييم المنهجية العلمية و نقدها فلسفيا و بيان عوارها منطقيا بل تطويرها إجرائيا. و من خلال هذا التصنيف المقبول منطقيا، أجد إن الدكتور غازي يقع في التصنيف الثالث، حيث يحاول أن يسبر غور المشكل ينقدها و يحاول أن يطورها إجرائيا، لذلك تجد إن كلماته تأخذ بعدها الفكري حتى في سياقها السياسي، الذي من المفترض أن يكون محدودا بحدود المنفعة الوقتية. في عقد التسعينات من القرن الماضي، تلقيت دعوة من مؤسسة الأهرام، لحضور محاضرة فكرية سياسية، سوف يلقيها الدكتور غازي صلاح الدين العتباني مساعد الرئيس السوداني بمركز دراسات الأهرام، و كانت قد وزعت رقاع الدعوة لعدد من الشخصيات السودانية المعارضة في القاهرة، و مدراء المراكز السودانية في تلك الفترة. الغريب في الأمر، حضرنا المحاضرة نحن اثنين فقط، الدكتور إبراهيم الأمين من حزب الأمة، و شخصي، و عدد كبير من الصحافيين و النخب المصرية، و موظفي السفارة السودانية بالقاهرة، هذه أول مرة أستمع فيها للدكتور غازي، الذي تناول قضية الصراع حول السلطة، من تاريخ تأسيس الدولة السودانية في عهد محمد علي عام 1821م، لكي يؤكد علي حداثة الدولة، و أثر تاريخ تكوينها علي تجربتها الحداثية في الحكم، و أثر الجهوية و القبلية و العشائرية التي صاحبت عملية إجراءات التكوين، و دورها في صناعة القرار السياسي السوداني. المدخل كان يؤكد أننا نستمع لشخص يختلف من حيث الرؤية و البصيرة عن أطياف السياسيين السودانيين، و إن كان التسلسل منطقيا، و يحاول المتحدث أن يجنح للعلمية، و لكن يتداخل المنهج التبرير عندما يعرج للحديث عن السلطة و الصراع مع المعارضة، كانت الموضوعية و كانت أيضا البعد عنها بين هنة و أخرى، حيث كان الدكتور يريد أن يفتح في تلك الفترة "نفاجا أو طاقة " مع النخب المصرية دون فتح حوار مع المعارضة، لذلك بدأ الحديث عن الدولة من منصة التأسيس. هذه الحديث التاريخي حول المحاضرة يلقي بظلاله، عندما أقرأ أية لقاء صحفي مع الدكتور غازي، أو استمع إليه في محاضرة أو لقاءا تلفزيونيا، لمعرفة تأثير غازي السياسي علي الدكتور غازي المفكر، و إصراري علي التعريف بالدكتور تأكيدا علي المنهجية، و أثرها في عملية التفكير المنطقي. في اللقاء الصحفي في جريدة " الصيحة" يقول الدكتور غازي في الحوار ( أنا مؤمن أن معطيات الوضع الراهن أخذين في الاعتبار الخبرة التي تراكمت في السودان عبر أكثر من ستين عاما من الحركة السياسية هي معطيات إيجابية لآن فيها علما و حكمة و تجربة معرفة لأغوار ما هو مطلوب من كل الأطراف كي تحقق الإصلاح السياسي، و إذا أخفقت هذه المحاولة الأخيرة في توفير المطلوبات سيكون من الصعب أن تنشأ عملية سياسية جديدة ذات فعل و مصداقية و نتائج مرجوة و واضحة في المستقبل القريب) إن التجربة السياسية الطويلة التي نعتها الدكتور غازي بشكل غير مباشر بأنها تجربة قاسية صعبة، من خلال استخدامه لعام و ليس سنين " أعوام عجاف" و هنا يشير لأثر المرجعية الدينية علي المصطلح. و هي تجربة يريد الدكتور أن يقول فيها، يجب أن لا يتحملها حزب لوحده، أي أن تكون المحاكمة علي الحاضر دون الماضي، لأن الخطأ في الماضي أسس قواعد للعمل السياسي خاطئة، هي كانت سبابا في أخطاء الحاضر. و بالتالي النظر للقضية منذ الاستقلال و ليس محاكمة كل نظام لوحده. و عن إشارته للحكمة، معروف إن الحكمة لا تتأتي إلا عند التحديات و المحن، و في هذه الحالة تحتاج للتبصر و إعمال العقل كأداة ناجعة في العلاج، أي أيضا إشارة كسابقتها، و حول العلم و المعرفة، لا تكتمل رسالتهما إلا إذا تم للباحث سبر غور المشكل، الملاحظ إن الدكتور لم يحاول أن يربط الإصلاح السياسي بالدولة فقط، إنما جعله تعميما سياسيا لكل الذين يشاركون في الفعل السياسي، و حتى حزبه و تحالف الذي يرأسه. باعتبارها مكونات سياسية متأثرة بالإرث السابق، و تأخذ من الثقافة السائدة، حتى إذا أدعت الحداثة، لذلك هي مطالبة أن تحدث إصلاحا ليس علي المستوي الإجرائي فقط، و لكن علي المستوي الفكري، الذي يجعل التقارب بينها ممكنا. و يستخدم الدكتور غازي التعميم يجعل التفكير مطلق، و يبعده عن دائرة الاتهام و المناكفة الشخصية. بمعني إن الحديث في السياسي دائما يأخذ الاتهام الموجه مباشرة للضغط علي الآخر، و في التعميم تكون الإشارة البحث عن مخرج، يشارك فيه الجميع، لآن الضرر واقع علي الجميع، و هنا يأتي البعد الفكري في القضية، أن تأخذ المشكل بكلياته لمعرفة الأسباب التي أدت إلي تعميق المشكل، و البحث عن الحل بمشاركة الجميع. و في فقرة أخرى يقول الدكتور غازي صلاح الدين (المطلوب الأوحد الجامع بين السودانيين الآن هو التوافق علي نظام سياسي فاعل و منصف و عادل يستطيع أن ينظم التنافس الشريف بين كل القوي السياسية، و يمنحها فرصا عادلة في انتخابات حرة شريفة، و إذا توصلنا لهذه الصيغة، سيكون من السهل الانتقال إلي المرحلة التالية من الإصلاح السياسي و الاقتصادي و الثقافي و الاجتماعي، و التوافق علي رؤية موحدة نحوه) الملاحظ في القراءة الكلية للفقرة إن الدكتور أحجم عن تقديم تسمية للنظام الذي يتراضي عنه الجميع، و هي مشكلة الإسلاميين السودانيين عدم الإفصاح " بالدولة الديمقراطية" و حتى الدكتور الترابي كان يتوارى عنها، من خلال خلق مصطلحات جديدة " التوالي – النظام الخالف" دون الإفصاح عن الدولة الديمقراطية، و حالة متعثرة عند كل أل الإسلام السياسي، ماعدا الدكتور راشد الغنوشي، الذي أفصح عنها، و لكن الإسلاميين السودانيين يترددون في الاعتراف بنظام الحكم الديمقراطي، و تمثل لهم كعب أخيل. فعدم الإفصاح عن المصطلح بشكل مباشر تجعل الشك يساور البعض، باعتبار إن ألإسلاميين مازالت فكرة نظام الحزب الواحد تسيطر علي مرجعيتهم الفكرية، كما تسيطر علي الشيوعيين السودانيين فكرة ديكتاتورية البولتاريا، نجد الدكتور بدلا عن الإفصاح عنها حاول الاستعاضة بمدلولات تشير إليها، و لكن جعل التسمية تأتي من الآخرين، فمثلا يقول انتخابات حرة شريفة، و هذه لا تتم إلا إذا أصبحت كل مؤسسات الدولة محايدة في العملية السياسية، التوافق علي نظام سياسي فاعل و منصف و عادل، هو النظام الديمقراطي الذي تتوزع فيه السلطات و الاختصاصات، و استغلالية هذه السلطات دون تدخل واحدة في شؤون الأخرى. لكن سكت الدكتور غازي في أن يقدم المصطلح، و تركه أن يكون نتيجة للتوافق بين القوي السياسية، فالفكر دائما يفصح عن أشياءه بصورة ليس فيها لبس، مما يؤكد إن غازي السياسي مازال مؤثرا في المفكر الأخر في بعض المرات، الأمر الذي يعيق العملية الفكرية لكي تصل نهايتها المنطقية. القضية الأخيرة، و التي ربطها الدكتور غازي بالأجندة الخارجية، هي المشروع الوطني، حيث يقول الدكتور غازي (الخلاص من التدخلات الخارجية هو أن نصل إلي مشروع وطني يتوافق عليه الجميع) و المشروع الوطني لا يتم إلا إذا حصلت مقاربات بين التيارات الفكرية المختلفة، في أن تتراضي علي طريقة في الحكم، و هي التي تمهد الطريق إلي الحوار المنطقي و الجدل المفيد في الوصول إلي مشروع وطني، فالمشروعات ذات البعد الواحد هي مدعاة للتنازع، و احتكارية الدولة أيضا مدعاة للتنازع و الاحتراب، و بالتالي المشاريع الوطنية رغم إن القوي السياسية توقع علي وثيقة الاتفاق، لكن دائما هي نتيجة لاجتهادات النخبة المنتجة للمعرفة، و هذه النخبة من خلال قراءتها للواقع السياسي و معرف الأسباب التي تعيق تطوره، هي تستطيع أن تقدم أسئلة جديدة تساعد علي تغيير الأنماط السابقة، و أيضا تغير في طبيعة التفكير السائدة إلي تفكير ينظر للمستقبل و يقدم رؤى حتى في تغيير الأدوات السابقة إلي أدوات جديدة تتماشي مع المرحلة الجديدة. ونسأل الله لنا جميعا حسن البصيرة. نشر في جريدة الصيحة الخرطوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة