في الغربة... نفقد دائما شيئا منا، دون أن ندري بأن هذا قد حصل. عدت يا سادتي الي ضفاف النيل بعد غيبة قصيرة بحساب الايام، أطول من ليل امرئ القيس بحسابات الربح والخسارة اذا كانت المشاعر و الأحاسيس تقاس و تحسب، و من غرائب الصدف إن اطلع قبل عودتي بفترة قصيرة علي دراسة عن السعادة استمرت لعشرات السنين لتخلص في النهاية الي ان اسباب السعادة لا تمت بصلة الي كثير مما يعتقده الناس من مال وفير أو صحة جيدة، ولكنها تتعلق بأمر واحد هو مقدار ما تمتلكه من علاقات حميمة وصداقات عميقة وأهل محبين مترابطين، أي بكلمات أخري: مقدار من هم حولك ومقدرتك علي الشعور بالأمان والراحة معهم، وثقتك بأنهم يهتمون لأمرك و يخلصون لك. ما تفعله الغربة هو انها قد تزيد من رصيدك المادي - وهذا أصبح غير مؤكدا - لكنها وبلا شك ستصيب أرصدتك الأخري بهبوط حاد، و ربما يصل بك الحال أن تذرع شوارع الوطن (غريب الوجه واليد واللسان)، أما ما يجعل المغترب لا يتحدث كثيرا عن هذه الحقيقة الموجعة فهو لا يخرج عن سببين: اما نكرانه وعدم اعترافه هربا من المواجهة والانهيار عندما يقف علي حقيقة النزيف المر الذي أصابه عبر السنوات، أو ربما هي المكابرة والمحاولة للظهور بمظهر جيد. وجدت الناس يا سادتي بعد غيبتي هذه ما زالوا يضحكون من الأعماق ويتزوجون من يحبون و يثرثرون في الرياضة والسياسة والاقتصاد، يذهب الأطفال الي المدارس كل صباح وهم في كامل أناقتهم المحببة، وقدور (قهوة الصباح) كما هي الحال تغلي علي (نار الجمر). وأما النساء، فما زلن يخضبن اطرافهن بالحناء وهن يدعون بأن يرد الله غربة المغتربين (سالمين، غانمين). د. محمد حسن فرج الله اختصاصي الطب النفسي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة