فوجئت بأن صديقي الدكتور زهير السراج قد أغضبه ما جاء في مقالي بعنوان إلى أين يجب أن تذهب لجنة الحريات بالحوار الوطني، والذي تناوات فيه توصية اللجنة بإلغاء قانون النظام العام، فخصص للرد عليه عموده المقروء مناظير في عدد الثلاثاء الماضي. مجمل ما جاء في العمود بُني على إفتراض أنني حين رأيت أن التوصية تثلج الصدور، و تُعد تطوراً مُهما في طريق الإصلاح القانوني، قد وقعت في خدعة أعدتها الأستاذة بدرية سليمان. أريد أن أطمئن صديقي زهير على أنني لم أقع في أي خدعة، وأن سبب تخيله ذلك هو أنه من جهة قرأ في المقال ما ليس فيه، ومن جهة أخرى أخطأ في تقدير أهمية قانون النظام العام، وهو خطأ يرقى لمرتبة الخطيئة حين يصدر من كاتب بنى مجده الصحفي على الدفاع عن الحريات. يحمل عليّ الصديق لأنني إعتبرت التوصية دليل على جدية الحوار، و أنا في واقع الأمر لم أذكر ذلك في المقال. ما ذكرته في هذا الصدد، واضح لا لبس فيه وهو أنه "يجب تقدير تلك التوصية بشكل متزن، لا يذهب لدرجة الإفراط فيراها دليل كاف على جدوي الحوار، فما زالت هنالك خطوات يجب أن تقوم بها الحكومة لتدعيم هذا النظر، ولا أن ينزل بتقديرها إلى درجة التفريط فينفي أن للتوصية أي علاقة بجدوي الحوار" ثم ذكرت في موضع آخر من المقال "التوصية في نظري هي مجرد خطوة في رحلة الألف ميل، ولكنها خطوة هامة ويمكن لما يتلوها من خطوات إما أن يجعل منها مؤشراً هاماً أو يحولها لسراب لا وجود له خارج عين الرائي" ورأيي في هذا الصدد هو أن هذه التوصية يمكن أن تصبح مؤشراً لجدية الحوار لونفذتها الحكومة فوراً، ولو أتبعتها اللجنة بعدد آخر من التوصيات. بالنسبة لأهمية قانون النظام العام، فإن رأي الصديق كما شرحه بنفسه، هو أن قانون النظام العام هو قانون ميت سريرياً منذ مولده، وبالتالي فلا معنى لللإبتهاج بالتوصية بإلغائه. هل صحيح أن قانون النظام العام لا أهمية لذهابه أو بقائه لكونه لا يعدو أن يكون قانوناً يستحيل تطبيقه؟ يا للهول، ماذا نقول لمنظمات المجتمع المدني، وعلى رأسها مبادرة لا لقهر النساء، وذلك العدد المقدر من الماجدات؟ أنقول لهن أن كل تلك الوقفات الإحتجاجية، والمظاهرات، وما ضاع بسببها من وقت ذهب في حراسات للشرطة، ومحاكمات إنعقدت لهن بغية إلغاء القانون، كانت عبثاً لا طائل من ورائه؟!!. " أنا هين يا زهير" فأنا لم أخسر سوى مداد سكبته في مقالي هذا، وبعض من كتابات أخرى عن ذلك القانون، ولكن "شيل شيلتك" مع من مسحت بجرة قلم نضالهن طوال الفترة الماضية. هذا ما كان من شأني أما أنت يا صديقي العزيز فوقاك الله مخاطر الظن بوفاة هذا القانون، فهو ما زال حياً تعمل سياطه وسجونه في معالجة أي أوهام تنتاب أولئك الذين يخدعهم التطبيق الإنتقائي للقانون فيحسبونه لم يعد فعالاً. أما القول بإستحالة تطبيق بعض أحكامه، كضوابط إقامة الحفلات الغنائية الخاصة، وتلك التى تمنع الرقص المختلط أو رقص النساء أمام الرجال في الحفلات الخاصة، حسبما جاء في المقال، فهو غير صحيح. فليس هنالك منطقاً ما يمنع أن ترقص النساء في حضور الرجال، ولا في أن يرقصن مع الرجال. و إذا فعلن ذلك، فليس هنالك ما يمنع شرطة أمن المجتمع من إقتيادهن إلى الحراسة لحين محاكمتهن تنفيذاً لأحكام القانون. وكون أن شرطة أمن المجتمع لا تقتادهن في كل مرة يقعن فيها في المحظور، فإن ذلك يعني إنتقائية التطبيق لا إستحالته، وشتان بين الإثنين. قل لي بربك يا زهير أي القوانين قد برأ من التطبيق الإنتقائي، حتى نأخذه، أي التطبيق الإنتقائي، معياراً لوجود القانون أو إمكانية تطبيقه؟ ظاهرة إنتقائية تطبيق القانون، هي مظهر من مظاهر الفساد، شمل أغلب القوانين العقابية بحيث جأرت بالشكوى منها الصحف، والأسافير، والخلط بينها وبين إستحالة تطبيق القانون، هي خطيئة أخرى نربأ بصديقنا أن يسمح للغضب بأن يوقعه فيها. أما القول بأن "القانون انتهى بشكل عملي بالتغاضي عن الزمن القانوني في حفلات اصحاب النفوذ التي تمتد حتى فجر اليوم التالي وتحت حماية أجهزة القانون" فهو إستدلال فاسد، لأنه يؤكد أن القانون هو قانون تمييزي يستهدف الشرائح الأضعف في المجتمع، مما يؤكد أهمية المطالبة بإلغائه. لا أدري كبف فات صديقي إن عبثية بعض المواد التي حملها القانون تشكل مناخ صالح لإنتقائية التطبيق، وللتمييز ضد الأقسام الأضعف من المجتمع، وخصوم السلطة، وهذا في حد ذاته يقلل من هيبة القانون وإحترامه. أليس في كل ذلك ما يدعو للإستماتة في المطالبة بإلغاء القانون؟ لقد أكدت في المقال أن القانون هو قانون يقوم علي عيوب أساسية و ذكرتها بشكل عام، و لكنني لم أكتفي بالتهليل للتوصية بإلغاء القانون، بل طالبت بالسير من تلك الخطوة لخطوات أخرى تكمل ذلك الإلغاء. والمقال نفسه عنواناً ومحتوى يقوم على الدعوة على مواصلة السير في طريق إلغاء باقي المواد المقيدة للحريات، حتى يكون لهذه الخطوة جدوى. ومن دواعي غضب الصديق حسبما يذكر، أن مقالي أغفل الإشارة للقانون الجنائي، و رسخ المفهوم الخاطئ الذي إعتمد الخطأ في قانون النظام العام و ليس في القانون الجنائي. هذا قول من جهة غير صحيح فالخطأ شمل أحكام في القانونين، وليس قانونا واحد منهما فحسب. ومن جهة أخرى فإن مقالي لم يغفل عن ذلك. فالمقال يذكر تحت عنوان فلنتحرك نحو القوانين المصاحبة "من الجهة الثانية فإن هنالك أمام لجنة الحريات الكثير من التوصيات التي يحسن بها تقديمها لإلغاء الأحكام الموجودة في القوانين الأخرى، والتي كانت تقتات عليها محاكم النظام العام" ثم يذكر تحت عنوان الترسانة القانونية المصاحبة "لا يشكل قانون النظام العام خطورة على النساء، والأقسام الأضعف من المجتمع، فقط بسبب ما يحمله من نصوص، ولكن أيضاً، وعلى وجه الخصوص، بسبب الأجهزة المنفذة له، والتي لا يقتصر إختصاصها فقط على أحكامه ولكنه يشمل أيضاً عدد من المواد الموجودة في القانون الجنائي والتي تعنى بضبط الأخلاق العامة" ألا ترى معي قارئي العزيز، أن ما ذكر زهير السراج، في هذا الصدد، لا علاقة له أصلاً بالمقال حتى تكاد تحسب أنه لم يقرأ ذلك المقال ؟ في النهاية فإن توقع الدكتور زهير السراج أن اتحدث عن إلغاء المادة (152) من القانون الجنائي لا أساس له فلماذا المادة (152) فقط؟ و ماذا عن المادة (154) مثلاً؟ القانون الجنائي يا صديقي ملئ بالمواد التي تتصل بمحاكم النظام العام و تحتاج لتبديل، وكان يتعين علي أن أختار أكثرها إلحاحاً، وقد إخترت معالجة المواد المتصلة بتسيير المواكب. ورأيت أن المجال هو مجال تقديم حلول عملية بدلاً عن الإكتفاء بالنقاش النظري، فقدمت مشروع قانون لحماية الحق في التجمع السلمي. ماهو المنطق الذي يفرض أن تكون المادة (152) و المتعلقة بالفعل الفاضح العلني، و التي أوفيناها كتابة من قبل، أجدر من حق كحق الإجتماعات العامة، و تسيير المواكب؟! رغم ما أسفر عنه كل ذلك من عالم من الإختلاف بيننا، فلك الود يا صديق، فخلاف الرأي لا يفسد للود قضية. نبيل أديب عبدالله المحامي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة