ليلة صاخبة في بيت الأسرة بالإسكندرية ..حاج صديق الخليفة كان يحرص كل عام أن يقضي إجازته الصيفية هنا على ساحل البحر..في كل عام ينتقي عدداً من أفراد الأسرة لمرافقته في رحلة الصيف..أحياناً تمتد الرحلة إلى مدينة أوربية ..انقبضت نفسه قليلاً حينما اشترك كل الموجودين في إطفاء شمعة حفيدته..بعد ثلاثة أيام سيصل عمره إلى ثمانين عاماً..شعر ببعض الضيق فأشار إلى الشغالة الصعيدية أن تأخذه إلى غرفته..مدام الطاف خمسينية لكنها تعرف مفاتيح الحاج..كان أحياناً يتمنى أن تتركه زوجته حاجة فوزية إلى هذه السيدة التي تعرف المسامرة دون أن تصل الى نقطة اللاعودة. هيأت له الشغالة الفراش الوثير ..غطته بغطاء خفيف ثم وزنت مكيف الهواء على درجة تناسب اعتدال المناخ ..حدثته نفسه أن يجعلها تجلس بجانبه قليلاً..ضحكت مدام إلطاف بدلال بعد أن قرأت النوايا الشريرة في عيني الشيخ.. منذ خمسة عشر عاماً بات ينام وحيداً..أم الأولاد اعتزلت الفراش بعد أن كبر الأولاد والبنات ..حينما أطفأت الشغالة الأنوار شعر حاج صديق بضوء الشموع يخترق غرفته..حدق في شمعة ببعض التأمل ..كانت النار تأكلها باشتهاء غريب..تضيء الشمعة الظلام ويلهو من حولها الناس في فرح طاغ. رحلة طويلة من الفرح والحزن عاشها صديق الخليفة..فقد والده في عمر الثانية عشرة..تزوج عمه من والدته..حياة فيها المشقة وضيق الرزق..قبل أن يكمل الثانوية التحق بالبوليس في مدني ..كان راتبه بضع جنيهات..يقسم نصفه ويرسله إلى زوج أمه..يقسم المتبقي بين معاشه في بيت العزابة ودفتر ادخار في بنك باركليز..في ذاك اليوم كان يتجاذب الحديث مع متهم قبض عليه في تهريب سلاح..عباس مقالب شرح له فلسفة جديدة..كان مقالب يكسب في رحلة واحدة ما يتقاضاه صديق في عشر سنوات..كانت الصفقة الأولى..بعدها ترك صديق العمل في البوليس ..كانت تجارته تنمو و تنمو..لم يكن يتذكر أبداً أن أصل كل الثروة كان تغييراً في صحيفة أقوال متهم. حينما أغمض عينيه راح في نوم عميق ..دخلت ابنته فدوى إلى غرفة الحاج فوجدته يتحدث بينما هو نائم..شعرت بالخوف كانت الكلمات واضحة..خرجت واستعانت بشقيقها منتصر..أيقظ الابن والده بصعوبة..حينما فتح الأب عينيه لام أولاده ثم حكى لهم الحكاية..كنت أتحدث إلى رجل ضخم الجسد يرتدي ثياباً بيضاء.كان أبي يمسكه من يده اليمني فيما أمي تحاول جاهدة أن تقبض بيسراه..كان الشبح يحمل بطاقة ضخمة مثل التي يحملها الحكم الرابع في مباريات كرة القدم.. كان مندفعا نحوي رغم محاولات أمي وأبي منعه من الوصول إلى مكاني ..على تلك البطاقة كتب الرقم (٨٠ ) بخط جميل..صاحت فدوى "حلم جميل يا بابا اللون الأبيض يعني السعادة". كان حاج صديق قلقاً من ذاك الحلم..حتى أنه في الليلة الثانية طلب من زوجته فوزية أن تنام بجانبه..ردت حاجة فوزية" سجمي يا صديق الأولاد يقولوا شنو"..بعد محادثات هامسة تم الاتفاق أن تغطي الوردية الحاجة ولكن بصحبة ابنتها فدوى وذلك حتى تكون الخلوة شرعية ولا يتم تفسيرها على غير ذلك..بعد نصف ساعة من النوم دخل حاج صديق في ذات الفاصل..كان يجادل ضيفاً..يطلب منه مهلة إضافية..يقول له هنالك أشياء كثيرة تحتاج إلى توفيق أوضاع..لم تتحمل فدوى زنقة والدها وأيقظته من النوم..رغم برودة أجواء الغرفة إلا أن الحاج كان يتصبب عرقاً..قال لابنته وهو يرتعد خوفاً " العداد بقى نازل". حينما وصل العداد إلى (٦٩ ) يوماً بدأ حاج صديق يتعامل مع الحلم بشكل جاد..نزل مع أسرته إلى القاهرة لمقابلة دكتور صالح فرج طبيب الباطنية المشهور..لا شيء كله تمام كانت تلك خلاصة تشخيص الطبيب المستند على فحوصات معملية..قرر حاج صديق أن يقطع إجازته ويعود للخرطوم..في كل ليلة كان حامل البطاقة يخفض في العداد..ويذكر حاج صديق بواقعة سالبة في حياته..على إثر ذلك قام حاج صديق بإجراء تغييرات هيكلية في الشركة القابضة..تبرع ببعض أمواله لهيئة الأوقاف ..شرع في توزيع الميراث بالحد الذي لا يجعل أحد ورثته ثرياً..خاف عليهم من المال. لم تصبر الأسرة على خرافات رجل الأعمال.. اجتمع الأولاد والبنات وقرروا رفع قضية حجر على والدهم..وقتها كان العداد يشير إلى أن ما تبقى من الزمن تسعة أيام فقط..ابنته الكبرى اقترحت على القاضي تأجيل الاستماع إلى القضية لمدة عشرة أيام..قالت له إنها كفيلة بإقناع والدها بالتوقف من إهدار الاموال..بقية أفراد الأسرة طالبوا بالإسراع في تعيين حارس قضائي..حاجة فوزية وحدها التي كانت على يقين أن زوجها صادق في رؤياه..لم تستطع ان تواجه المد الثوري في العائلة ففضلت الصمت. أغمض القاضي عينه بناءً على طلب المتهم ..لم ير العداد لكنه بات أكثر يقيناً ان الحاج صديق في كامل وعيه..أحال المتهم إلى الفحص النفسي وقرر النظر في الدعوى في جلسة بعد عشرة أيام..قبل الجلسة بيوم واحد نهضت فدوى مبكرا ..ارتاحت حينما رات والدها يقرأ القران الكريم على سجادة الصلاة..مضت لتصنع له فنجان قهوة..حينما عادت وجدته جالساً على ذات الهيئة ولكنه مستند على حافة السرير..حينما صبت القهوة لم يرد الحاج صديق..كانت روحه قد فاضت لمولاها بهدوء ويسر. assayha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة