ظل مفهوم الأمن القومي منذ أن ظهرت على الوجود الدولة القومية بمفهومها الجيوسياسي المعاصر، متعلقا بحدودها الجغرافية وغالبا ما كانت تلك الحدود حدودا طبيعية، كالجبال والبحار والصحاري والغابات. ثم تطور المفهوم مع تشابك مصالح الدول وتقاطعها وعبورها للحدود، ليغدو المجال الأمني للدول متسعا يزيد مداه بعلاقة طردية كل ما زادت قوة وجبروت دولة من الدول. وبدت مصطلحات مثل الاحتواء والردع والتوازن عناوين بارزة في مثل هذه المقاربات بهدف تحقيق الأمن القومي. ولعل الانتشار الكثيف للأسلحة والتطور النوعي الذي شهده عالم اليوم، أدى إلى تعديلات في النظام الدفاعي للدول وكذلك ثوابتها التقليدية الموروثة. فلم يعد غريبا ذلك التشابك بين الأمن القومي ومفهوم القوة، لاسيما بعد بروز المدرسة الواقعية التي رسمت فكرة التنافس من أجل القوة في العلاقات الدولية، وبحيث يُنظر للأمن على أنه مشتق من القوة وأنه أداة لتعظيمها. لكن اليوم ومع الاندماج شبه الكامل والتداخل المعقد لاقتصاديات الدول وتشعب علاقات شعوبها عبر تكنولوجيا التواصل، غدت مقاربة الأمن القومي مختلفة تماما. بل أصبح من الضروري الحديث عن الأمن الدولي القائم على تحقيق توازن إستراتيجي يمنع انهيارا كاملا للمنظومة الدولية ويقتضي ذلك تحالفا أو على أقل تقدير، تعاونا من جانب دول العالم. وعلى مستوى المنطقة العربية، فلا شك أن هناك مسؤولية عربية مباشرة وكبيرة في كلّ ما يحدث من تداعيات خطيرة حبلى بالمؤشرات التي تصبّ في عملية إعادة تشكيل المنطقة تشكيلا يهدد أمنها واستقرارها وتقويض مصادر قوتها الثقافية والعسكرية والاقتصادية. لكن في ذات الوقت تقف الحكومات وقفة الصامت المتفرّج. ويشكّل العالم العربي إحدى المرايا العاكسة لعلاقات القوى والمتغيرات الهيكلية في النظام العالمي ككل، بالإضافة إلى أنه يمثل واحدا من المتغيرات فيه والتي لعبت أدوارا في تغييره ودفعه نحو آفاق جديدة. فعندما تتحدث المنطقة عن ثرواتها الهائلة الزراعية والحيوانية واحتياطياتها النفطية والغازية وتحكمها في الطرق البحرية الإستراتيجية وهذا صحيح، فقد تظن أن القوة الاقتصادية وحدها ضمان لأمنها واستقرارها. والحقائق تشير إلى أن الدول العربية تمتلك ما يصل لأكثر من 55 % من الاحتياطي العالمي للنفط، كما أن من دولها العشر الدول صاحبة الاحتياطي الأكبر للنفط، وتمتلك الدول العربية خمس دول تملك هذه الدول الخمسة ما يساوي نحو 713 مليار برميل من النفط مُشَكلة بها قوة وثروة معدنية هائلة. كما تحوز الدول العربية على أهم احتياطات الغاز الطبيعي، وهذا يتضح تماما من امتلاكها ما يزيد عن الربع في الاحتياطي العالمي، وطبقاً لإحصائيات التقارير التي قدمتها منظمة الأقطار العربية وهي الهيئة المختصة بتصدير البترول الأوبك في 2015، حيث بينت أن احتياطي الغاز الطبيعي في الدول العربية بلغ نحو 54.3 تريليون متر مكعب، أي ما يعادل نحو 28 % من الاحتياطي العالمي للغاز الطبيعي. لكن مع ذلك يجب أن تتنبه دول المنطقة لأن هذه القوة الاقتصادية مرهونة ومرتبطة بالمنظومة الغربية وبدرجة أقل بالأنظمة الاقتصادية العالمية الأخرى كالصين وروسيا. بيد أن أي انهيار أو خلل في تلك الأنظمة يعني انهيارا أو اختلالا في أمن واستقرار المنطقة على الأقل من الناحية الاقتصادية. فيما تقتضي ديمومة الأمن والاستقرار المضي في السعي لأجل الاندماج الإقليمي، على شكل تعاون أمني واقتصادي يجعلها واحدة من أكبر وأهم الاقتصادات في العالم. وكل ذلك يفضي بها لأداء دور مؤثر في حلّ الصراعات الإقليمية، سيما وأن الشعوب العربية تعيش على مساحة واسعة، وتتمتع بروابط تاريخية، وتقليدية موحدة، وبالرغم من أنهم ينتشرون في 22 قُطراً مختلفاً، لكنهم جزء من أمةٍ واحدةٍ. وتحيط بدول المنطقة قوى إقليمية ذات تأثير سالب عليها إذا ما كانت هناك حالة عداء وتنافر، والعكس يكون صحيحا. غير أن كيانا واحدا لا تنطبق عليه هذه القاعدة وهو جولة الاحتلال الإسرائيل في فلسطين، فلا مجال إلا أن تصنف وبشكل إستراتيجي، عدوا يحذر مكره. لأنها في الأساس دولة مصطنعة تمثل رأس الرمح في استهداف المنطقة ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها جزءًا أصيلا من المنطقة. أما بقية القوى يمكن أن تحمل مشاريع حضارية وتعتبر الدول العربية شركاء في المنطقة لا خصوما، ويمكن أن يؤسس التاريخ المشترك لمستقبل تعاون قد يرقى لمستوى تجربة الاتحاد الأوروبي. فالرهان على مد جسور التعاون وإشاعة جو السلام، يبدو المخرج الوحيد والضمانة الوحيدة والراسخة لأمن واستقرار هذه المنطقة. ولعل من أقوى مهددات الأمن القومي للمنطقة العربية نزيف القوى البشرية وهجرة العقول. فهناك أرقام مفجعة وصادمة توردها المنظمات الدولية المعنية بالهجرة وحتى جامعة الدول العربية. فقد أشارت دراسة للجامعة العربية خلال السنوات الأخيرة إلى أن مجموع عدد الكفاءات العلمية العربية في الخارج يصل إلى أكثر من مليون كفاءة علمية. فهذه الأرقام المخيفة وكأنها تُحدّث عن عمليات «تفريغ» ممنهج من أهم موارد المنطقة على الإطلاق وهي الموارد البشرية، خاصة أصحاب الكفاءات والتخصصات النادرة. وتقف مهن الطب والتعليم والهندسة في أعلى سلم الهجرة، فلا يقل مقياس إدارة الموارد البشرية، وإدارة الاقتصاد، يعتمد على استثمار العقول. ففي السودان على سبيل المثال لا الحصر فإن هجرة الأطباء السنوية تصل إلى 5 آلاف طبيب. ويشير جهاز المغتربين إلى أن هجرة الأطباء تعتبر فقدا لرأس المال البشري للدولة. وفي خلال سنوات قليلة مضت أعلن الجهاز عن هجرة نحو 50 ألفاً من الكفاءات السودانية، من أساتذة الجامعات والأطباء والصيادلة والمهندسين والعمال المهرة، بدافع تحسين أوضاعهم المعيشية. وربما يقلل من ضخامة هذه الأرقام أن جزءًا من هذه الهجرة تكون في إطار دول المنطقة، غير أن الهجرة إلى الولايات المتحدة وأوروبا لا يستهان بها على الإطلاق.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق March, 15 2023
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة