هناك صيف في كل مكان، داخل الأحذية وبين أسنان المشط، وتحت الإبطين، وفي غمامة الذاكرة، وله رائحة نمل محترق. ليس النمل المجنح فقط، بل حتى النمل الذي يتعشى تحت الجلد. أو ذلك المتخفي داخل الأرواح المتململة. ويحاول الكلب طرده من لسانه الطويل، وهو يعود إلى الخلف، لكي لا يتبع سيده الصغير. والسيد الصغير لم يعرف بعد معاني الارتباط بين الموت والقُبلة. لذلك فالمسير طويل، إذ يطلق الجندي الأسير النار على القائد، في وسط جبهته تماماً، غير أن القائد لا يموت، بل يعض قضيب الأسير حتى يقطعه فيموت كلاهما ببطء كدوران المجرات. يصبح الكون فارغاً منهما، ومن العروسين، ومن اليعاسيب المراهقة، وثمرة الجوافة ذات الديدان، والحب والفرح، وتغمره كآبة سيارة عطبت بسائقها وسط الطريق الخلوي، لتظلل ما تحت الرمل من عظاءات عطشى شاحبة. إنه روتين الحياة الباهظ، والسخيف أكثر من رجل يتسول قلب امرأة. "ليس كل العالم روكو" ويبدأ الكلب في التحول لبشري. غير أن الولد لا يدرك ذلك. ويحاول الكلب التخلص من بشرية داهمت كينونته على حين غرة. "بل كل العالم روكو" ولكن هيهات. ففي وادي البكاء، تنشق الأرض عن أخدود الحقد من حروف اللغة، وتلك ميزة بشرية مُحتكرة. "فليكن.. ليس كل العالم روكو" فيردد الولد: "ليس كل العالم روكو" وتنقبض أذنا الكلب. مقرراً مفارقة صاحبه من طريق المجهول. ولا يلاحظ الولد اختفاء الكلب إلا في مساء يحبل الوحشة في أعماق الجبال. إن القماش الأبيض يتمزق ثم تنسل خيوط نسيجه شيئاً فشيئاً ليخسر الحكمة. وهكذا يقبع الولد وحيداً فوق التل، وعيناه على امتداد الممشى الأزلي السرمدي. "إنك لم تفكر حتى في أن تطلق عليَّ اسماً يا روكو" ويستمر صمت حيرته مستلقياً على شفق الغروب. كانت كتل السواد تنتشر، الأعشاب والتلال والأشواك والفطر العفن وأسِّرة العاشقَين والقرادة فوق كرسيها، وجثت القائد والجندي الأسير، والصخور العابرة وأشجار الصبار الشوكية، ورماد شجرة السرو، وكل الغطاء النباتي، وصبية الضباب، وقباب الأضرحة فوق السماء، والكتاب الأسود، ودم الشيطان وصوت الطيور الآيبة إلى أعشاشها لتغفوا تحت أجنحتها. "سأطلق عليك اسماً". "ولكن ماذا؟" "إنك لن تعود على أي حال" ويقفز من التل، ليمضي في ممشاه. وتنحني امرأة داخل البئر، ثم تسقط. هذا سبيلها الوحيد إلى الانتحار، لكنها لا تموت، بل تموت ببطء وبألم شديد. كان هذا قبل آلاف السنين، إذ لا فرق في موضوعات التاريخ. ويكفي أن دولوز لم يكن وحده من اكتشف ذلك. فسعف النخل يحاول الطيران منذ الأزل، ونهايات النظريات تشهد على ابتذال الضحك. وابتذال النواح من وجه آخر. ومضارب الصحراء، وروث المواشي، والمقابلة الوظيفية، وفائض القيمة، ومضاربات البورصة..الخ. إن الأصوات تنفصل عن حناجرها، ولكنها تتصل بجوفهم وخصيهم، وضفائر البنات في عمر الرابعة عشر، وأخبار الصحف اليومية، ورابطات العنق. وسوق الجنس، والفنادق من درجة السبعة نجوم. وعطاءات العقود الإدارية، والرشاوى، وغسيل الأموال، ودموقراطية عث الفِراش. "فلتكن بخ.." "لا" ترتجف الصلصالة فوق الدوار الخشبي كنهد أنثى. واليدان تمسَّهما برفق. يدان ضخمتان أكبر من الكون كله. وتتنهد الشمس، ويغوص القمر بين فخذيها، ويتناثر حب الرمان على أهوار العراق. ومعه ألم مُر. يقف الولد وينصت للكون الصامت. يسمع هسيس النجوم البعيدة. "لم يبقَ لي شيء" يمتد الممشى أمامه، يصعد ويهبط، ينعطف وينحرف وينكسر، ينخسف وينبعث. "لم يبقَ لي شيء".. يلتفت خلفه.. لا شيء، ثم يعود ليحدق أمامه، لا شيء.. ينظر يمينه.. لا شيء.. يساره.. لا شيء.. تزداد دقات قلبه وتتسارع انفاسه.. لا شيء.. لا شيء.. لا شيء.. ويصرخ: "مامااااااااا"
(تمت)
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق March, 02 2023
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة