هذا المقال ينتظم مع المقالات السابقات بحبل سري وحيد ، و هو تخفيف آثار التغيير و تقليل الزمن المناط به هذا التغيير . فإن كنت ما تزال ترى ضرورة إراقة المزيد من الدماء و الدماع لتحقيق هذا التغيير ، إذن ، أغرب عن وجه هذا المقال . لم تكن ثورة ديسمبر 2019 لتنجح إلا بالتقاء وعيين إثنين : وعي شبابي ، و وعي الطبقة الوسطى الجديدة . فأما الوعي الشبابي ، في حقيقته ، إنما هو وعي قليل من فوقه طموح كبير . و أما وعي الطبقة الوسطي الجديدة ، في حقيقته ، إنما هو وعي كبير من فوقه طموح قليل . و غني عن القول إن الوعيين "إنقاذيان" ، بمعنى شكلتهما سني حكومة الإنقاذ المطاح بها بعد تضحيات مؤلمة . و الوعي الشبابي حديث نسبيا ، حيث أنه تبلور من جراء المواد الإعلامية التي توفرها السوشيال ميديا التي تعطي في معظمها آمالا عراضا و طموحا فخيما بما ينبغي أن تكون عليهما حياتهم التي يستحقونها ، فجاء وعيا فجا و مبعثرا لم تشذبه المعرفة العلمية و الأكاديمية الضرورية التي أعتادت العقول البضة تلقيها في المدارس و الجامعات لتساعده معرفة الطريق إلى ذلك . فقد اختلطت فترة تعليمهم (اقرأ: تجهيلهم ) بدعاوى الإسلاميين بالتفوق على العالم أجمع ، لتحشو عقولهم بما يسميه باولو فريري , آخرون "التعليم البنكي" ، و ذلك من أجل التعبير عن أشواق "الأمة" كما جاء في استراتيجية التعليم الإنقاذية ، و هو ما جلعنا أن نصفه بالوعي القليل الذي أعتلاه طموح فخيم و أمال عراض . و أما وعي الطبقة الوسطي الجديدة ، فقد أفردنا له مقالات عديدة من قبل ، و ما يهمنا هنا ، هو الطريقة "الإنقاذية" التي أنشأت وعيها أيضا . و انجبس هذا الوعي من منبع جشع حكومة الإنقاذ بسحبها الدعم من الصحة و التعليم و هما بندان ملحان لا يعرفان المزاح ، فخرجت جموع الشعب السوداني تسترزق من عملها في الطرقات ، الذي طالما أطلقنا عليه عملا هامشيا ، إضافة إلى ما تولد من ما توفره تورة الاتصالات و المواصلات من أعمال تدر دخلا لملاقاة هذين البندين اللذين لا يعرفان المزاح . و هذا ما يفسر الطموح الذي وقف هنا ، و الوعي الكبير الذي تولد و نما بالاحتكاك اليومي الصعب مع هذه الحياة "الإنقاذية" ، و أصبح لا يكترث إلا لمهامه العاجلة اليومية . و لم تكن هذه الطبقة تتأثر كثيرا باضطراب زيادة تكاليف الحياة لأنها كانت ، ببساطة ، ترفع من رسومها في ما تقدمه من خدمات بما يناسب هذا الإرهاق الحياتي الجديد . و لذلك لم من تخرج من طورها هذا ، و وتيرتها تلك ، إلا بعد أن حجزت "الإنقاذ" أموالها في البنوك و لم تعد تستطيع أن تتحصل منها سوى القليل بعد ذل السؤال و شق الأنفس و لطم الخدود .. و كما ترى ، لم يكن لثورة باهرة أن تقوم في ديسمبر 2019 إلا بتقاطع منحنيي هذين الوعيين فيما يشبه التفاعل التسلسلي ، فانفجرت نواة المتصل السياسي و الاجتماعي في السودان ، حيث أضاء سطوعها سماوات عندك خت و ما عندك شيل ..
و حدثان إثنان ، كذلك ، أعقبا نجاح الفعل الثوري ، كان لهما ما بعدهما: تخطف "الأحزاب" لثمار الثورة من الشباب ، و انفكاك وعي الطبقة الوسطى الجديدة عن الوعي الشبابي ، انفكاكا أبديا . إذ عادت الطبقة الوسطى الجديدة إلى ما تحسنه لتوفير معينات الحياة غير عابئة بمتاريس الشباب ، فكل ما وجدت طريقا مسدودا ، بحثت عن آخر مفتوح حتى لا تعود إلى مخادعها فارغة اليدين . و غياب هذه الطبقة الجديدة عن الفعل الثوري ، هو ذاته الذي أسهل قمع ثورة سبتمبر 2013 لعلكم تذكرون . و أما الشباب ، فقد أدركوا مؤخرا أن "الأحزاب" إتما هي كيانات جوفاء "تسلقت" شهداءهم و تاجرت بهم مع العسكر ، إذ لم تتذكرهم إلا حين يطمع العسكر في الفراغ السياسي الذي عجزت هي عن ملئه ( راجع مقالنا الذي حمل عنوان: نعم انقلاب .. لكنه ملء تلقائي للفراغ ) . و لكم أعجبني أن عبر أحد شعراء هذا الوعي الشبابي عن هذا الإدراك ، بتفلسف شديد الشجن ، إذ أنشد يقول ، بدارجية فكهة : ما "تتسلق"الشهدا !! ديل ، أرواحهم مشت كداري فوق !! و إنت ، إنت بتاع ملح !! و كثيرا ما تلذني المقابلة في الكلام ، و هي ، هنا ، المشي كداري إلى سماء المجد في مقابل المشي "ملح" إليه .. و هل في هذا العالم لبيب ؟؟ أوكى ، خرجت الطبقة الوسطى الجديدة من الفعل السياسي الجاري ، تلهث خلف تلطيف جنون وزارة المالية التي تريد أن تستبدل الدعم الدولي الحرون "لاتفاقية جوبا" بجيبها ، فبقي ، إذن ، على المسرح السياسي ، المجتمع الدولي و العسكر و الشباب و الأحزاب بواجهاتها و الحلو و نور . فالمجتمع الدولى ، ما كان له أن يكون فاعلا لولا العطالة و البطالة في الفعل السياسي السوداني ، و هو فعل ساكن تمور حوله الحياة !! وأما "الأحزاب" ، فإنما هي اسم نطلقه مجازا لبعض الموجودات السياسية التي يمكن لها أن تستحيل أحزابا في المستقبل لو عكف "مثقفوها" على تنقيح المبادئ التي قامت عليها هذه الموجودات السياسية في الماضي ، بحيث تكون متصالحة مع العالم اليوم و مع الذات السودانية و هي تسير في طريق تشكل لا ينتهي . و أما العسكر ، فواقع نتعامل معه و لا نفترض أنه لا يجب أن يكون موجودا . و إنما نستطيع بقليل من الحصافة و التعاون البناء أن نعينهم تدريجيا على التفرغ لمهامهم العسكرية . و لا نهدر الزمن في استبدال جنرال بجنرال ، ثم جنرال بجنرال ، طول الطريق إلى أسفل الرتب العسكرية حيث "شرفاء الجيش" ! و أما الحلو و نور ، فقد أضعفا صوت التغيير كثيرا ، و ذلك باكتفائهما بالقذف بمطالبهما من بعيد و لا يعلمان أن مطالبهما لا تتحقق إلا إن عملا مع الآخرين لتحقيقها . فالعلمانية و المدنية ليس أشياء معروضة على أرفف البقالات لنشتريها و خلاص ، أنما هي عمل يومي و دؤوب بسد الفراغات في التشريع و التنفيذ ، و تكوين المفوضيات المعينة لكل أؤلئك ، و مراقبتها اللصيقة لتطوير ذلك . و أخشى أن تصدق فيهما الدراسة الضافية التي قدمها جيسون استيرنز ، الأستاذ المساعد للدراسات الدولية بجامعة سايمون فريزر ، لمجلة فورين بوليسي الإمريكية من أن حركات "التمرد" الأفريقية فقدت قضيتها بالنأئ بنفسها عن الانخراط في الفعل السياسي لتغيير "المركز" الذي تناهضه و استمرأت و أعتادت نمط الحياة التي تعيشها الآن (لفت نظرنا لمكتوب جيسون استيرنز مقال للكاتب الفتاش عبدالله على إبراهيم) . و كما ترى ، لم يبق لنا إلا أن نحث الشباب و نشجعهم للتفاهم مع العسكر مباشرة و إهمال الأحزاب و واجهاتها تماما .. و ليعلم هذا الشباب أن رجوع العسكر لثكناتهم لا يتم إلا بوجود جيش واحد لا عدة جيوش ، و لا يتم ذلك و غيره إلا بملء فراغات الحكم ، فلا يشتتنكم إن كان انسحاب البرهان ، من جزء من الفضاء السياسي ، تكتيكا برهانيا أو هزيمة سياسية ، فقط تدفقوا زرافات و وحدانا في هذه الفراغ حتى الامتلاء ، حيث لا يكون هناك موطئ قدم لمفرملي مسيرة التغيير في السودان ، فهو السبيل الوحيد لاكتساب زخم يصب في صالح قضايا التغيير . فقط أخطوا الخطوة الأولى ، و حينها ، تتكشف دروب الحرية و السلام و العدالة أمامكم ، و دعوا إزموزيا السياسة تفعل فعلها الذي تجيده رويدا رويدا ، و لا تخشوا الإسلاميين ، فهؤلاء لم ينفخ الروح في جثتهم سوى لغو و صبيانية يسارنا الطفل الأرعن . كما نشجعهم على إعادة العلاقة مع حمدوك الذي لابد أنه تعلم كثيرا من تجربته السابقة التي "نجحت" الأحزاب و واجهاتها في حجب الشباب عنه ، و منعتهم من التفاعل معه خصوصا لإنجاح خطته بتقسيم السودان إلى خمسة أقاليم اقتصادية و هي "الواجب المنزلي" الذي يجب عمله لتصب فيه مشاريع الشراكات الدولية . (وضع حمدوك هذه الخطة بعد أن أتضح له أن حلفاءه المحتضنين له لا خطة لهم !) . و ليتأكدوا أن العالم سيتفاعل معهم و دونهم تصريح المبعوثة الأمريكية "موللي" التي أوضحت عقب لقائها مع ممثلي مركزية قحت ، أن الولايات المتحدة على استعداد مع التعامل مع أي حكومة مدنية دون مشاركة "قحت" فيها بل دون أن تكون جزءا منها !! إذن ، اقبضوا على اللحظة الراهنة و هي عجينة ساخنة طيعة في أيديكم تشكلونها و تتشكلون معها كما تشاءون ، و تتعلمون منها و معها ، و كم أنتم بارعون في التعليم و التعلم . كما أحب للشباب أن يعرفوا أن العسكر و مسيرة الحكم ، في العالم عموما و السودان خصوصا ، إنما هما توأمان سياميان منذ نشأة الدولة في السودان "الحديث" على يد الإمام المهدي في نهاية القرن التاسع عشر ، و ليس من الممكن إبعاد العسكر إلا بتجويد الحكم المدني الذي يحتاج إلى فعل يومي بالتفاهم على عدة مستويات . و حتى تلك المستويات ذات الحساسية الإقليمية و الدولية ، يمكنكم ، بتكوين المفوضيات المناسبة ، تحسين شروط التعامل معها و مراجعة بعضها لمصلحة الوطن . و لتثقوا أنه يمكنكم عمل الكثير المهم فيما تبقى من فترة انتقالية . كما أحب لكم أن تدركوا أن الوطن الذي تموتون من أجله ، يحبكم أكثر و أنتم تعيشون من أجله ..
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق July, 09 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة