دائماً وأبداً تحضُرني قصيدة أبي القاسم الشابي الشاعر التونسي الذي رحل في ريعان الشباب، ومطلعُها: إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة ... فلابد أن يستجيب القدر...ولابد لليل أن ينجلي...ولابد للقيد أن ينكسر، وهذا الشعب يعتبر من الشعوب المشحونة الدواخل بالرغبة العارمة في الحياة، فربما للنيل والصحراء أثرهما على هذا التكوين الوجداني المزيج الغريب، فأهل الصحراء رغم قسوة ظروفهم الطبيعية إلّا أنهم شيّدوا حضارةً دكّت حصون الأندلس، والنيل حفظ أقدم مومياء لملك كان على قدر عالٍ من الجمال، سرقها أحفاد الجد سام وسجنوها في قفص بمتحف بوسطن، فبلاد السودان هي الوحيدة التي دخلها المسلمون سلماً، فأجبرت الدين الجديد على ضرب الدفوف ومدح سيّد الأنام، على الرغم من خلو تعاليم المدرسة الجديدة من إدماج الغناء في الشعائر الدينية، هذه القوة الوجدانية والثقافية هي امتداد للروح الزنجية الفكهة والمرحة المنحدرة من أعماق كوش وكيميت، وهذه البلاد مهما تقادمت عليها السنون إلّا أن إنسانها ما لبث يختزن ذلك الإرث العريق، وبخلاف كل الثورات المندلعة حول قطرنا الإقليمي والقاري، فقد أدهش صغارنا كبار العالم بتمسكهم واستمساكهم بسلمية النضال، وإيمانهم بسطوة الحب مقابل عنف القوة، ولعل الهرم الزنجي الأكبر نلسون مانديلا قد نهل من معين هذه المدرسة السلمية المتجذرة. شباب صغار طافوا مدن السودان مبشّرين بالنصر الأكيد الذي يأس من تحقيقه آباؤهم، في تحدٍ مرعبٍ لمن غرّتهم الدنيا وبهر أعينهم بريق الذهب فظنوا أنهم قادرين على وطأ جمر هذه الأزهار الصبيّة، وفي كل مرة يرنو بصر الكبار لهذا البريق (اللاصف) وتستسلم دواخلهم لأثر لمعان سحر هذا المعدن الثمين، ينتفض الصغار الأبكار الذين لم يطمث براءة ذوقهم إنس الدنيا ولا جان الآخرة، فيثبون نحو آفاق المجد الذي زالت في سبيله عوائق (أوساخ الدنيا). وبينما الكبار يلهثون ويتدافعون أمام مصراعي باب الخارج يطلبون حلّاً هم يملكوم مفتاحه، يوصد الصغار الباب الخارجي ويفتحون (نفاجاً) داخلياً ينطلق من ثقة عظيمة بالنفس، معتمدين على خصائص ذاتية غنيّة بقيم الحق والخير والجمال والطهر الإنساني الذي تركه الأولون، فلا يُعقل أن يهمل المتطلعون لبهرج السلطان هذه الماكنة الجبّارة ذات الدفع الرباعي، التي يمسك بمقودها هؤلاء الصغار، فمن أراد الوصول ما عليه إلّا أن يقدم فروض الطاعة والولاء لهؤلاء المراهقين الأغرار، وإلّا سوف يتوه مركبه في بحر النضال المتلاطم الأمواج والذاهب بكل خفيف وزن إلى الأعماق البعيدة الأمتار، فالحل يا سادتي العظماء الكبار، كامنٌ بين الصفوف المتراصة لأبدان هؤلاء الثوّار، ولا ملجأ لكم غير التزاحم والتنازل والترفع عن الصلف والغرور، لأنهم هم الأخيار، وهم الأعمدة الحاملة لعرش البنيان، فاتّبعوهم كي يرسموا لكم طريق الحق الأبلج بالنصر المبين وبالانتصار. التضحية مقرونة بأرض النيل منذ ذلك الزمان الكوشي الكيميتي الذي تُقدم فيه حسان حسناوات النيل، قرباناً وتقرباً لأجل رغد العيش وتفادياً لغضب الإله الماكر المكّار، ذلك الغضب المفضي إلى سوء المنقلب وشح انحدار مياه النيل وجدب الأرض واصفرار المحصول، وفي هذه الخصيصة لا غرو ولا غرور أن جاءت هاجر أم النبي الذبيح إسماعيل سليلة من سلالات أرض هذه الممالك العريقة والعتيقة، وما دام أن بين ظهرانينا عيد الفداء لابد لنا من استحضار معاني تضحية الإبن الصغير إسماعيل من أجل الأب الكبير إبراهيم، وهنا تتجلى حقيقية آباء الشهداء من أمثال الصادق سمل وأبوبكر والد الشهيد عبد العظيم، و آخرين كثر لا يسع المقال لذكرهم، هؤلاء الآباء قدّموا فلذات أكبادهم العشرينيين فداءً للشعب والوطن، وهذا لعمري تصوير إلهي دقيق لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكورا، ورسالة روحية لمن في قلوبهم أقفالها، فحينما يُضحّي الصغير من أجل الكبير انتظروا النصر النصير، فناموس الكون واحد مهما تقادمت السنون وتغيّرت وتبدّلت الوجوه، ومازال قانون الجزاء من جنس العمل سنة ماضية إلى يوم يبعثون، وهذه الدماء الشابّة المسكوبة على أرصفة طرقات الأربعين والمعونة وأركويت وبيويو كوان دينق، لا تقل شأناً من الدماء المنجرفة من أعناق خراف الأضاحي يوم النحر - يوم الفداء الأكبر، تلك التي جاءت فتحاً مبيناً على إبراهيم والحنيفيين، وأمست ركناً ركيناً لملمح من ملامح أول تضحية في تاريخ الوجود والإنساني.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة