ما معنى قيام ثلاث انقلابات فينا؟ والأكثر أهمية: لماذا أطحنا بها الواحد تلو الآخر؟ جعلت صفوة البرجوازية الصغيرة، التي تكره التأمل والتفطن في منشأ الظواهر الاجتماعي، من تواتر الانقلاب فالثورة عليه إما ظاهرة مرضية (باثولوجية) أو طبيعية. فهي عندهم في مثل ميكانيكية تعاقب مواسم الطبيعة، أو أنها داء عضال في أمة السودانيين (الفضلو) وتشخيصه أنه "الدورة الخبيثة". ولا يطرأ لهذه الصفوة الممحونة بوطن كاسد حاله "أعد، أعد" بلا عمار ما تعنيه هذه الدورة في "تدافع الناس" إذا لم تعد "الصراع الطبقي" ترندي أو سكسي. وأوجز هنا قبل التفصيل: معناها أن ثمة صراع اجتماعي بين ثقافة "تكوين النفس" عن طريق قوة الحكم وبين الحس السوداني العميق ب"المساواتية" (egalitarianism) الذي هو ثمرة شرع القبيلة وفروسيتها الذي حملته "بنينات" الحبوبات في مناسبات الطهور والعرس، وزهاد قبابها الذي جسده جميعاً نضال الحزب الشيوعي السوداني القديم بين الناس والوعي الاجتماعي بسواسية الناس واشتراكهم في نعيم الزائلة.
ساد الاعتقاد أن نظام الإنقاذ نظام فاسد. وحاربته المعارضة طويلاً على زعم فساده. وهو مع ذلك أقبح من هذا بكثير. فيقع الفساد حتى في نظم محروسة بنظم مالية وإجرائية تتربص بالفاسدين وتوقعهم في حبائلها. أما الإنقاذ فدولة عطلت النظم المالية والمحاسبية بالكلية في مثل "التجنيب" ليُكون الحاكم وبطانته أنفسهم كما يحلو لهم. فليست الإنقاذ فاسدة فساد مختلس في أمريكا مثلاً. إنها حالة ماجنة رُفعت فيها الصحف وكسرت الأقلام لتثرى بطانة الحكم مثنى وثلاث ورباع وإلخ. إنه حالة معروفة عندنا ب"الزول يكون نفسو".
وهو نظام مدروس في أفريقيا من حولنا. لم يقع لنا دون سائر العالمين من "الكيزان ديل" الذين لا نعرف بعد من أين جاؤوا إلى يوم المسلمين هذا. ولا نريد أن نعرف. وللنظام مسميات مثل "دولة اللصوص" (kleptocracy)، أو الأبوية الجديدة (neo patrimonialism)، أو السوق السياسي. والقاسم المشترك الأعظم فيها استباحة المال لتثرى الصفوة الحاكمة منه. ومتى علمنا طبيعة النظام وفرنا على أنفسنا حجاج القائلين بعرضهم للقضاء لينظر في صحة ملكيتهم في حين أنها ملكية ناجمة عن نشاط غير شرعي مثل غسيل الأموال. ومناط التحقق في مثل هذا المال، حتى في بلاد ديمقراطية كأمريكا وغيرها، هو النيابة العامة وأجهزة الأمن بسلطات واسعة في حجز المال ومصادرته كما كتبت هنا مراراً.
ليس الفساد مصابنا في الإنقاذ. فمصابنا فيها "الترسمل" من المال العام بلا وازع. ولو أحسنا النظر بالتحليل الاجتماعي والمقارن لعرفنا أن هذا ديدن الطبقة البرجوازية الصغيرة في أفريقيا. فهي تنتهز ضعف قواعد الطبقة البرجوازية ست الاسم فينا لتكون هي البرجوازية بحيازتها "سلطة للساق". وأمام أعيننا. وهو ما تلخصه العبارة الإنجليزية من أنهم (transform power into wealth). والقول الشائع المتمزح القائل إن الإنقاذيين جاؤوا بشنط حديد وسكنوا الشاهقات تعبير واحد في استنكار التربح من شوكة الحكم. وهذا الترسمل باب من أبواب "التراكم البدائي" الفظ لرأس المال كما نوه بذلك ماركس.
وليست هذه مرة البرجوازية الصغيرة الأولى في دولة الانقلاب للرسملة من المال العام. فحاولت ذلك بدرجة أقل في دولة مايو حتى قال الزين كو عن دولتهم "الغنا غنا والما غنا يركب هنا" مع حركة بالأصبع. وشكل النظامان، مايو والإنقاذ، إساءة مرة للحس السوداني بالمساواتية "egalitarianism" فثار الشعب عليهما. بل سبق إلى ذلك حتى نظام عبود. فنشأت فيه طبقة أفندية ثرية من باطن الدولة سماها الحزب الشيوعي ب"البرجوازية البيروقراطية" في تقرير مؤتمره الرابع (١٩٦٧). واقترنت هذه النظم جميعها بأمرين. أولهما الاعتداء على مال بيوت الإرث كما حدث لآل المهدي والميرغني، وقمع الرأسمالية الوطنية سياسياًً بمصادرة موجودها كما حصل لشركات عثمان صالح وتجارة محمد أحمد عباس وعثمان محد خير أوماك وكثير غيرهم. والأمر الثاني هو قيامها على ديكتاتورية متمكنة لكي تثري صفوة الحكم وأضانها باردة. قلت مرة أنني معجب بجهارة أعضاء لجنة التمكين في الدفاع عن اختصاصها الثوري الفريد. فباختصاصها نريد للمرة الأولى توطين "المساءلة" كعقيدة سياسية وتقوى اجتماعية. فلم نستكمل هذه المساءلة في كل المرات الماضية التي قبضنا فيها الديكتاتوريين بسروال ناصل ـ فأذكر اسقاط البرلمان في ١٩٦٥، بقيادة جبهة الميثاق الإسلامي، لمطلب للنائب العام بمحاسبة أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ولم أكن بالبلد لأعرف ملابسات محاكمة مجلس قيادة انقلاب مايو ١٩٦٩. ولكن أعرف أن الإنقاذ أطلقت سرح السجين منهم، وأعادت نميري للبلاد معززاً، وشيعته رسمياً. وسمت أكاديمية عسكرية ما باسمة. وأذكر بياناً أصدرته خلال حملتي الانتخابية الموءودة استنكرت فيها هذا الدس اللئيم على ثورة ١٩٨٥. يروج بعضنا أننا لم نخلق للديمقراطية: وين ووين ووين نحن من الغرب، فينا عقل بدوي، فينا قبائلية وفينا وفينا والله يطلع ميتينا. وقيل ما الديمقراطية يا عبد الله؟ قال ال accountability قالها ثلاثاً. لم يولد بها أي شعب. وهي ما نتعلمه نقع ونقوم. وإزالة التمكين كانت الدرس الأول من دروسها. وعينك ما ترى إلا اب سبيحة.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 03/24/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة