كنت قليل المواهب. موهبتي الوحيدة التي أجيد هي الخيال او اظنني كذلك. كنت في المدرسة الإبتدائية بين الصفين الرابع والخامس عندما أشتعل الخيال. كنت أحب السفر.أمنيتي الكامنة أن أكون رحالة .. مرة من المرات فكرت وقدرت وجئت لأبي وكان شيخاً صوفياً أعجز الزمن: (انت قلت لي أن لك أهل في الجزيرة والسليمانية غرب) (نعم).. (ليه ما بتزورهم). قال أنه كبر في العمر وحركته أصبحت ضعيفة.
فأقترحت عليه أن أنوب عنه في تفتيش أهله .. فرح فرحاً غامراً وسلمني في الحال مبلغاً من المال يكفي إبن بطوطة صغير. وأهداني عدداً من الوصايا الذهبية وعصاية أهش بها كلاب ودواهي الطريق.
أخذت المال والوصايا الذهبية وتركت العصاية لأن عندي مطواة وجدتها مرة ملقية على الطريق. لم أحتاجها ابداً لحسن الحظ وجمال الناس.
أول رحلة لي كانت لأبو طليح في الجزيرة حيث عمنا مصطفى ضمرة الفكي فضل الله ثم أربجي حيث أسماء ضمرة ثم إبنتها في الدويم. (كان زوجها يملك صالون حلاقة في قلب المدينة). ومنها إلى الدنيقيلة حيث حبوبة لنا من آل مردس.
وعدت بقصص وروايات مع الناس والطريق وكانوا أجمل ناس في العالم. وذهبت إلى الكريبة وقدالة وحبيبة وكبمو الحسناب حيث الأم الكبيرة الشفة الباترة وإلى الكاملين وإلى الإمتداد والرميلة.
وعندما عدت يملأني الفخر بالإنجاز حد الإعجاز، رويت لأبي القصص فسعد غاية السعادة.. ورويت له إنتصارات في الطرقات جلها خيالية لكن شعرت أنها ضرورية للمصادقة على المزيد من الرحلات المقبلة. وهذا بالضبط ما حدث.
واذ كان لا بد ان اهدي ابي حاجة في المقابل فحصلت على العلامات الكاملة في كل امتحانات المدرسة كل الوقت (مية المية) اذن تلك رشوة عظيمة.. خططت لها عمدا كي لا يكون عذر لمعتذر.
ومن بعد ذلك تم تمويلي من جديد بمبلغ أكبر في مهمة جديدة ملحة عند أبي إلى إبناء وبنات عماتي وأختى من الأم الكبيرة الشفة الباترة (زينب جمال الدين) وإبنها جمال الدين البشرى. وعمتي مريم. وأنخت قافلتي في منزل حامد سليمان عباس حيث أصبحت فرداً في الأسرة بجانب عمار وياسر التوأمان فكنت التوأم الثالث.
وتعرفت على تلات أرباع سكان البلدة الوادعة النائمة على الضفة الغربية للنيل.
أخبرتكم في البدء أنني قليل المواهب ما عدا الخيال. لا أعرف كل الوقت الرقص ولا العزف على أي آلة موسيقية ولا أغني ولم أكن لاعباً مرموقاً في كرة القدم رغم حبي لها ولا أعرف حتى غسل ملابسي الخاصة. وأهم شيء لا أعرف الطبيخ، أمي بالكامل، لا أفرز الصلصة من الشطة القبانيت.
عندما وصلت هولندا بعد أن كبر الخيال حصلت على منزل "إيجار" في مدينة لاهاي. ثلاث غرف وصالة متوسطة السعة.
في صيف ذلك العام، أتصل بي رجل من حكماء مدينة آرنهيم في شرق هولندا إسمه مصطفى حميدان. أصله من مدينة كوستي وجاءت به مثلي الأقدار إلى هولندا كما جاءت بالآخرين من أمثالنا.. رجل في غاية الفطنة والذكاء والفكاهة.
روى لي أنه علم من مطلعين بالأمور أن هناك شغل متاح في شاطي البحر في لاهاي. ورجاني أن أسكنه معي ذلك الصيف عله يسترزق. لكنه ليس وحده معه أربعة آخرون. تمام.
أتفقت معه على إيجار صغير زي ميتين دولار للواحد منهم، في الحقيقة لم أتفق مع أحد ولم أنطق لأحد بذلك علناً. بل فقط قدرت أن رفقاء السكنى الجدد سيدفعون لي ذلك المبلغ الزهيد بالمقارنة "أي جملة ألف دولار فقط في الشهر" يا للسعد. كنت طالباً أدرس اللغة الهولندية للتو. إنه مبلغ جيد في الحقيقة، أصبحت أحلم.
لكنهم وصلوا الدار المباركة بهم فوجدوها وسخانة "زبالة" والتلاجة فاضية والأرجاء كلها تعمها الفوضى.
كنت معتمداً بالكامل على (الجنك فود) من أكشاك السوق المفتوح القريب من منزلي الجديد يسمونه بالخطأ (سوق اليهود) وفي الحقيقة معظم ملاك أكشاكه وترابيزه الصغيرة مسلمين مغاربة وأتراك وبوذيين وهندوس من سورينام.
المهم أنهم وجدوا الحال كله مايل. فأشتغلوا شهراً كاملاً في البيت عله يصلح للسكنى الآدمية بدلاً من أن يشتغلوا في شاطي البحر. وكان الصيف تلك المرة لسوء الحظ ليس عامراً بالشمس المحبوبة التي هي ملح الشواطي في أوروبا.
عندما مر شهران ونصف بالتمام. إستفتيت حميدان بطريقة "بطريقة ما" في إمكانية أن يخبر لي الشباب في مسألة الإيجار. كان يعلم أحوالهم أفضل مني. وهم شباب من نار ونور وأصبحوا أصدقاء العمر الآن (الصادق صلاح ومحمد سليمان وغبوش وأسامة مختار).. وحسبو حماد كان مقيماً بالمدينة الأخرى أرنهيم لكنه يزورنا كلما تهيأ له.
أخذني حميدان من يدي وفتح لي الحمام والغرف والبلكونة (كل شيء في غاية النظافة والنظام).. وفتح لي التلاجة (مليانة) ثم فتح لي غطاء حلتين على البوتجاز الأولى شوربة رؤوس سمك (من سوق اليهود) والثانية حلة "القطر قام" التي أحبها وأحب إسمها. وهي طبخة يمكن أن تتنوع لكن ما يميزها أنها سليقة وفق حميدان وأنك تضع كل شيء في وقت واحد وتقفل الغطاء وتضعها على نار هادئة حتى النهاية.. بسيطة لكنها يمكن أن تكون في غاية اللذة والمتعة والحكمة أو حسب مهارة القبطان.
ومن بعدها رفع لي حنكي بيده اليمنى إلى الأعلى وقال لي (هسا المفترض يدفع منو أنت أم نحن) ثم ترك لي دوره في الكشتينة المدورة في الصالة لأنه مشغول بشورية السمك وبمراقبة نار الحلة "القطر قام".
بعد سنة منذ ذلك الحدث العجيب الذي تخليت فيه عن إيجار منزلي طوعاً أم قهراً لست أدري.
تعرفت على أسرة هولندية تقيم منذ عهد كوش الهولندي في مدينة تاريخية وسط البلاد.
وتتكون الأسرة الجميلة من أم (مفراو فان دا لندا) وأب (منير فان دا لندا) وبنتين في مقتبل العمر. منتهى الروعة والسلام والأمن والعلم.. شئ من الكمال في خيالي.. وسرعان ما أصبحوا جميعهم أصدقاء وأهل. وأنا لا أنفك عنهم.
يوماً ما قسموا أيام المطبخ. أنا حصلت حسب القرعة على يوم الأربعاء. على كل منا أن يطبخ طبخة بمزاجه فقط أن يراعي ما أمكن أذواق الجميع.
عندها ما كان أمامي إلا أن أتصلت بحميدان لأستفتيه في (القطر قام) فحدثني حديث العارف الذي عركته القطارات لمدة نصف قرن من عمره المديد أو يزيد. وتفضل علي بأسرار إضافية (واهم شئ يا زول النار، لازم تكون واطية إلى أقصى درجة ممكنة وكررها ثلاث مرات).
في مساء يوم الثلاثاء قبل اليوم الموعود مشيت السوق أحضرت جميع المتطلبات للقطر قام بمصاحبة بعض الأسرار التي أمتلكتها وكتبتها في ورقة خاصة. وقبل النوم قمت بمناورات في المطبخ ثم ذاكرت من جديد الورقة المهمة. ونمت يشوبني بعض التوتر من الفشل.
المفاجأة التي لم أتوقعها أن طبخة القطر قام ”زبطت" وفازت بالجائزة. وأهم شئ أنها سليقة وقليلة الدسم والكلسترول. وفي الحقيقة تشبه الطريقة الهولندية في ثقافة الطعام.
وأصبحت من بعدها لمدة ثلاث سنوات لاحقة الطباخ الرسمي للأستاذة الجليلة مفراو فان دا لندا. حتى مرة من باب إعجابها الفائق بالقطر قام سألتني كيف تعلمت الطباخة (في كلية حميدان العليا) وأصبحت من ذلك العهد نصف المدينة تعتمد في وجبتها الاساسية يوم الأربعاء على القطر قام.
اليوم يوم الذكريات.. شكراً مصطفى حميدان وشكراً لمدرستك البديعة وحب خاص للقطر قام.
المناسبة: الليلة عملت (قطر قام) زابطة.. وبتخيل أن مفراو فان دا لدينا ليست مخطئة بالكامل.. بس أنتو تعالوا جربوني.. عازمكم كلكم قطر قام!
04-14-2022, 01:06 AM
محمد جمال الدين محمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5757
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة