التباكي والنواح ، والعويل الذي نشهده هذه الايام عن ثروات السودان التي تسرقها مصر وعن وما يشاع عن العملات المزورة التي يتم شراؤها مثلما يتم كوبا من الشاي من احدى البائعات ( الاثيوبيات ) في شارع من شوارع الخرطوم - التي تتدهور وتتداعى يوما بعد آخر - توضح مدى الانفصام المصاب به اكثرنا ، وتبين الحسد الشديد الذي يعتري القلوب والافئدة . من المعروف في العالم كله ان الدول ترتبط ببعضها بالبعض بالمصالح والمنافع المتبادلة ، والتجارة الحدودية بين البلدان المتجاورة هي من أكثر الوسائل التي تعبر عن تلك المنافع وتحققها ومصر والسودان ليس استثناء عن ذلك ، وما يحدث بينهما - من تجارة عبر الحدود - هو أمر طبيعي ليس وليد اليوم ، ولكنه نشاط ممتد عبر التاريخ فرضه الواقع الجغرافي وفرضته حاجة كل طرف للطرف الآخر . في تقديري أن شعبي مصر والسودان تحديدا دون بقية الشعوب يجب ان يكون الامر بينهما مثالا ونموذجاً لذلك التعاون ، لان الشعبان تربطهما الكثير من روابط الثقافة ، والتاريخ ، والدين ، والوشائج ، والمصلحة ، ولو تركنا هذا النواح جانبا ونظرنا الى الأمر بعيداً عن العواطف ( التي لا يستطيع السودانيبن الفكاك منها ابدا رغما نداءاتنا المتكررة للتفكير بمنطق العقل وحده ) لوجدنا فيما يكتب اليوم تجنياً ، وظلماً ، وتجريحاً لاشقتنا في مصر، لاننا لو ركزنا قليلاً لما وجدنا مثل هذه الهستيريا عند الشعب المصري في أي وقت من الاوقات التي ترتفع فيها نسب الفائدة في العلاقة لصالح الشعب السوداني ، الذي تقدر ممتلكات ابناءه العقارية في مصر باكثر من ثمانية الاف شقة سكنية ، ناهيك عن باقي الاشياء الأخرى . إن هذه مناسبة ، وفرصة كبيرة لنا لنتعلم من الشعب المصري ترك الحسد ، ونتعلم منه الاستعداد لقبول المنفعة ، والفائدة المتبادلة مع الآخر بكل أريحية ، وترحاب ، دون اي نازع من نوازع الانانية وحب الذات فلا يمكن لطرف ان يكون وحده هو المستفيد او الرابح دائما ، فمثل هذه الفوائد خاضعة لتقلبات الاوضاع المتغيرة ، ولذلك هي تتبدل تبعا لتبدل لتلك الاوضاع ، والظروف فان كبُر حجم الفائدة في مصلحة طرف من الأطراف في يوم من الأيام فهو سيكون أكبر في اليوم الذي يليه في مصلحة الطرف الآخر وهكذا . إن ما جعلني أذهب الى التوصيف الذي ذهبت اليه ، هو أننا نعرف تماماً – أو يجب أن نعرف - أن في كل شعب من الشعوب يوجد الطامع ، ويوجد الفاسد ، و يوجد الذي يسعى للثراء باي وسيلة كانت – وليس الشعب السوداني استثناءا من ذلك – فان كنا نحن عاجزين عن ادارة ثرواتنا ، إن كنا مقسمين ، ومتشرذمين ، وصارفين جل وقتنا في التنازع ، والتقاتل ، والصراع ، ان كان هم التشفي وهم الانتصار في معاركتا الداخلية أهم عندنا من أنتصار الوطن ، أن كنا ننظر على الدوام تحت اقدمنا ، ولا نحسن ابدا النظر الى المستقبل لنرسم له الخط ، ونضع له الاهداف ، ونعمل جاهدين بكل تجرد وتفان ، وصدق من أجل تحقيقها فلماذا نلوم غيرنا أن استفاد من ثرواتنا التي لم نحسن نحن استغلالها ؟ لماذا نلوم غيرنا ان أخذ ما فرطنا نحن فيه ؟ لماذا نلقي بالاتهامات جزافا على الآخرين للاننا فاشلين ؟ وإن صحت تلك الاتهامات - بالجملة - وان كانت الصورة تماما كما رسمتها اقلام وافواه من قاموا بتناولها فمع من يتاجر المصريين ؟ ايتاجرون مع كائنات هلامية لا ترى بالعين المجردة أم معنا نحن ابناء السودان الذين نبيع السودان ؟ فلماذا نطالب المصريين ان يكونوا اكثر اخلاصا للسودان منا ؟ واذا فرطنا نحن اصحاب الحق في حقنا، وتاجرنا به ، اذا عزمنا أن نبيع الغالي بالرخيص ،، اذا رغبنا نحن ( ابناء السودان ) في ان نبخس بضاعتنا حقها فلماذا نلوم المشتري ؟ واذا قبلنا نحن ( ابناء السودان ) أن ندمر اقتصاد وطننا بعملة مزورة - اياً كان مصدرها - فلماذا نلوم من يزودنا بها ؟ لماذا نطلب من الاخرين ان يكونوا ملكيين أكثر من الملك ؟ ان كنا ( نحن السودانيين ) نضع ممتلكاتنا على قارعة الطريق وندخل للنام داخل بيوتنا وغرفنا الوثيرة الدافئة فلماذ نلوم اللص ان قام بالسطو عليها واخذها ؟ هذا جانب من الصورة أما الجانب الاخر الذي لا يلحظه الكثيرون وهو أن صاحب الماشية لا يقوم ببيع بعضا منها لحاجته لرعاية البقية منها فان لم يبع جزءا منها فمن أين تاكل بقيتها ومن أين ياكل هو ؟ واذا كانت السوق السودانية لا تستهلك تلك الأعداد المعدة للبيع فلمن يبيعها ؟ وقس على ذلك بقية السلع الاخرى ، فاذا عجزت حكوماتنا المتعاقبة عن إنشاء المسالخ التي نحتاجها ! وإن عجزت عن انشاء المصانع ، وان عجزت عن إنشاء البنية التحتية لربط السودان باسواق أخرى ، يبيع فيها المنتج انتاجه ، بسبب أشخاص أمثال عمر قمر الدين ، يحاصرون الوطن ، ويقتلونه ، ويجوعون إنسانه ، ويدمرون اقتصاده ، بدافع النيل من نظام حاكم ، مهما طال بقاؤه فهو آخر الامر سيمضي ، ويبقى الوطن ، وبسبب أحزاب تضع مصالحها قبل مصالح الشعب ، وتحاربه بالسلاح ، وبالاشاعات ، وبالاكاذيب لعشرات السنين لذات السبب ، وبسبب حركات تحركها الجهوية ، والعنصرية ، والرغبة المحمومة في السيطرة والتسيد ، فماذا يفعل ذلك المنتج ؟ واين يبيع ما ينتجه غير في السوق الذي يجده متاحا أمامه ؟ إننا في حاجة كبيرة جداً للصدق مع النفس ، فالأولى بنا إن شئنا المحافظة على ثرواتنا ، أن اردنا لبلدنا التقدم ، والرخاء ، الأولى بنا أن نعمل نحن من أجل هذا الوطن ، لا أن نطالب الآخرين بالعمل من أجله في الوقت الذي نقوم نحن فيه بطعنه وبسكب السم في احشائه . الاولى بنا نحن أن نوفي له لا ان نطالب الاخرين بالوفاء له فما شانهم به . الاولى بنا نحن أن لا نسرقه ، لا أن نطالب الاخرين بعدم سرقته . الاولى بنا نحن ان نكون صادقين في رغبتنا في الحفاظ على مقدراته ، لا أن نطالب الآخرين بالمحافظة عليها ! الاولى بنا أن نتحالف ، ونتكاتف ، ونتواثق ، وأن نتفق على أن يكون الله اولاً ، والسودان ثانياً وثالثا ورابعاً .. و.. عاشراً . الاولى بنا نحن ان نجعل الوطن قبل كل مصلحة شخصية فردية أو حزبية أنانية حقيرة . والى أن يعرف السودانين الفرق بين أن يحاكموا عمر قمر الدين ، وينزعوا جنسيته ، وبين أن يقلدوه منصباً دستوريا فظني أن الامر لن يتبدل ولن يتغير. واخيرا المال السائب يعلم السرقة وطالما كان مالك سائبا فان لم يسرقك هذا فسيسرقك ذاك والله أفضل عندي الف مرة أن يستفيد الشعب المصري كل الفائدة مما نملك ، من أن يستفيد منه شعب آخر ، فمصر التي تاوي أكثر من خمسة ملايين سوداني يعيشون فيها بكل حرية ، ويعملون بكل سلام ، وأمان ، لم يرفع المواطن فيها يوما عقيرته مستنكرا لوجود اولئك هناك .
هامش : نحن نتحدث عن الشعب المصري لا عن حكومته .
بهاء جميل
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 01/29/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة