العمارة رقم ٨٩ في شارع النيل تحكي قصة غريبة جدا. مالكها يدرك تماما أنها، بطوابقها البالغ عددها ٢٧ طابقاً، قد أنشئت على أساس من الجالوص. نعم من الطين الأخضر المخلوط بروث البقر. تجمع السكان ونصحوه بهدم العمارة وأنها تشكل خطراً كبيراً على حياتهم وحياة من يعبر بجوارها من الناس. فالشوارع من حولها تعج بالسابلة. قالوا له إن من الحكمة هدمها وإنشاء أخرى مكانها، تقوم على أساس مسلح ووفقاً لأسس هندسية سليمة يطمئن لها الساكن ولا يضار منها القريب أو البعيد. كان المالك عنيدا، لا يأبه لرأى الآخرين مبلغ ما بلغ من المعقولية. بدلاً من هدم العمارة، قرر أن يعيد طلاء جدرانها وفرش غرفها بفاخر الأثاث. كان ذوقه فجا في اختيار الألوان وتناسقها. لكنه واثق من أن البهرجة والتأنق في المظهر كفيلان وحدهما باستغفال السكان ريثما ينسوا أن العمارة آيلة أيلولة مؤكدة للسقوط. فضلاً عن ذلك، فقد طالما كان المالك يستمرئ المخاطرة بأرواح الآخرين. من لم يرضخ لمشيئته من السكان، قيل له يمكنك أن تذهب حيثما تأخذك قدماك! خرج نفر من العمارة، وظل آخرون تضطرهم ظروف شتى للبقاء ومساكنة هذا المالك الفاسد الذي تعوزه مكارم الأخلاق. كانت تلك قصة الحوار الذي توثبت له الإنقاذ دون أن يتمخض عن نتيجة تستأهل الوثوب أصلاً. كان فرحاً دون مناسبة جديرة بكل هذه الجلبة والضوضاء وفخامة الضيوف الأجلاء. إنه طلاء للجدران وتأنق في رياش الغرف، وتجاهل لحتمية سقوط المبنى على مالكه المستبد. الآن... وطالما تفرق المحتفلون وضيفهم الكريم، فمن حقنا أن نطالب الإنقاذ بكشف حساب عن التكلفة التي تكبدها المواطن الغلبان من دافعي الضريبة. فليس من العدل أن يتحمل هؤلاء تكلفة لا تعود عليهم بنفع، لا في دينهم ولا دنياهم؛ لا سيما وأن مداخيلهم ضئيلة، وعيشهم ضنك، وتعليم أبنائهم يكلفهم أتعابا تزيد في كل لحظة وكأنها في سباق ماراثوني مع ارتفاع سعر الدولار، وصحتهم في تدهور مستمر، ووقتهم يضيع هدراً، فما أن يخرجوا من أزمة خبز إلاّ ليدخلوا أزمة غاز، ثم يأتيهم فصل الخريف بسيوله وما يبشرهم به من خراب، حتى أصبح بعبعاً يخشونه بعدما كان مصدرا لبهجتهم، بل مبشراً لآبائهم وأجدادهم بحصاد وفير في أفق قريب. من حق هؤلاء أن يتساءلوا من المسؤول عن هذا الخلل في الأصل، ولماذا يتحمل المواطن الغلبان تكلفة خلل لم يكن سببا فيه ابتداء؟ ثم هل يرضى المواطن بمخرجات حوار بهذا القدر من التواضع، وقد سبق له أن شهد نتائج حوارات ومصالحات وطنية في بلدان عديدة، لعل مما لا يزال عالقاً منها بذهنه محصلة المصالحة الوطنية في جنوب أفريقيا عقب نظام الفصل العنصري وما أفضت إليه من توافق واستقرار مجتمعي يشد العالم ويشهد على كفاءة الإنسان الأفريقي وقدرته على تدبر أموره بنفسه بعدما ظنوا به الظنون إبان فترات الاستعمار البغيض. وكعادتهم في كافة أمورنا الحيوية، يتجاهل أهل الإنقاذ تزويدنا بفاتورة حساب الحوار المتهافت الذي هللوا وطربوا له أيما تهليل وطرب. أما موقع الحوار الوطني على النت فهو يفتقر إلى أية بيانات مالية، اللهم إلاّ ما أورده أمين عام الحوار الوطني، البروفسير هاشم محمد سالم، بأن عدد الاجتماعات كان ٣١٢ اجتماعاً، وبمشاركة ٦٤٨ عضوا في اللجان وانقضاء ١٠١٧٤ ساعة حوار، ومساندة ٤٣ خبيرا. ما هي حصيلة كل ذلك؟ لا شيء، وبكل المقاييس. أمامنا وثيقة مخرجات الحوار التي لا تساوي الحبر الذي كتبت به، ولا الورق الذي طبعت عليه. فهي عبارة عن قائمة أمنيات ليس إلا. لماذا لم يفكروا في إنفاق هذه الأموال الطائلة في تحسين وضع التعليم، أو الصحة، أو قفة الملاح أو هذه الجوانب الثلاثة معا؟ بالطبع يحدد ذلك معرفتنا لمقدار ما أنفق وأهدر عبثاً. وأيا تكن تكلفة هذا العبث الصبياني، والاستهتار بأموال الشعب، فمما لا شك فيه أن الترف يمثل أحد أبرز علامات أفول الدولة، كما قال ابن خلدون في مقدمته. ذلك أن الحوار سوف يتيح للإنقاذ مواصلة نهجها الاستبدادي من طريق الدعم الإقليمي الذي تسعى إليه جاهدة، وتحرص عليه ليضخ في خزانتها بعض دولارات تستبعد بها شبح الإفلاس المالي الواضح في انهيار قيمة الجنيه السوداني يوماً بيوم. ذلك لأن الحوار غير مقصود بذاته، والدليل على ذلك استمرار القصف الجوي للمواطنين في قراهم في جبل مرة وجنوب كردفان؛ وبقاء المعتقلين السياسيين في معتقلات الإنقاذ وبيوت أشباحها؛ ومواصلة التغول على حرية الصحافة؛ والإغفال التام لدور المواطن في تحقيق أية نهضة مرجوة. انظر لرئيس البلد في حواره التلفزيوني المشهود عشية انتهاء الحوار ماذا قال عن الزراعة؟ إنه ينظر إلى الزراعة كمصدر يسد القصور في دخله شخصياً. وبصرف النظر عن صدقه فيما يزعم من ضيق ذات يده، فإن نظرته للزراعة تمثل النظرة الضيقة التي تتبناها الإنقاذ سياسة لها منذ مجيئها قبل 27 سنة. تلك هي النظرة من زاوية المصلحة الشخصية. وبهذه النظرة، تبددت شعاراتهم شذر مذر. فأين نأكل مما نزرع، وأين نلبس مما نصنع؟ ولماذا كل هذا اللهث المجنون وراء وقف تضعضع الجنيه وتأجيل دخوله غرفة الإنعاش؟ لماذا تعطلت عجلة الإنتاج في كل القطاعات؟ هل من سبب آخر سوى الفكر الاقصائي الذي ذهب بالسودانيين في دروب الغربة كل مذهب؟ إن خزايا الإنقاذ تتراكم على صدور الشعب الذي يؤثر الصمت الجميل حتى إشعار آخر قريب. بيد أن لسان حاله يردد مع أبي العلاء المعري تصميمه الأبي في بلاغته المعهودة: وأي عظيم، راب أهل بلادنا... فإنّا، على تغييره قدراء
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة