ففي محاضرة ألقاها الأستاذ محمد وردي بديوان الكوفة في لندن حول مكوِّنات الغناء السُّوداني، ذكر وردي أنَّ الأغنية المعاصرة انبثقت بشكل مباشر مما يُعرف في السُّودان بأغنية "الحقيبة"، وهي إشارة إلى برنامج إذاعي اسمه "من حقيبة الفن"، التي لا تزال الإذاعة السُّودانيَّة تقدِّمه دون انقطاع منذ العام 1954م. وقد بدأت مرحلة الحقيبة العام 1919-1920م، وهي أول بدايات الأغنية السُّودانيَّة بشكلها المتعارف عليها حاليَّاً، وخلالها انتظم شكل الأغنية بمقوِّماتها الراهنة من قصيدة غنائيَّة ولحن بمطلع وخاتمة، وعرفت أحياناً الآلة الموسيقيَّة. ومع أنَّ أغنية الحقيبة، التي امتازت كلمات أغانيها بالعفة، قد شهدت بعض محاولات إدخال الآلة كالعود والكمان والأكورديون والبيانو والقرب الإسكوتلنديَّة بل القيثار، إلا أنَّها كانت بسيطة في شكلها العام: فعلى سبيل المثال مطرب يبدأ الغناء بنوع من الإنشاد والتنغيم الذي نسمِّيه "رمية"، ثمَّ يدخل في مطلع الأغنية، وهي الميلوديَّة الرئيسة، وتردِّدها من خلفه جوقة ترافقه نسمِّيها "شيَّالين". وفي الخاتمة يتكرَّر ترديد عجز البيت الأخير في حوار بين المطرب والجوقة المصاحبة. والفرق بين الحقيبة والغناء الحديث يكمن في الأداء. ففي الأولى يمكن أن تؤدِّي الأغنية بعدة سلالم موسيقيَّة، لكن في الأغنية الحديثة فإنَّ الفرقة الموسيقيَّة لتجعلك منضبطاً في الأداء بسلم واحد. فقد نشأت الحقيبة على يد الروَّاد الأوائل من المغنيين مثل الفنان الرَّاحل محمد أحمد سرور من مواطني قرية فداسي ود المجذوب. غير أنَّ الفنان عبد الكريم كرومة كان رائدها ومهندسها وأغرز مؤلفيها إنتاجاً، والذي قد اختلف الرواة في تسميته ب"كرومة"؛ فمنهم من قال إنَّ الاسم دلالة على التدليل من اسم عبد الكريم، ومنهم من قال إنَّه سُمِّي ب"كرومة" تيمُّناً باللورد كرومر، ذلكم المبعوث السامي البريطاني الذي كان هو الحاكم الفعلي في مصر في عصر الخديوي ومن بعده الملك فاروق. أيَّاً كان الأمر، فقد استطاع كرومة، برغم من أنَّه لم يعش أكثر من 42 عاماً، أن يؤلِّف أكثر من 400 أغنية، كل منها لا تشبه الأخرى، وفي مقامات متنوِّعة، وسلالم موسيقيَّة مختلفة. إذ تناول وردي بالغناء والإضافة بعض أغنيات مرحلة الحقيبة. وكما أتقن وردي الأغنية العاطفيَّة كذلك فعل الشيء نفسه مع أغنيات الحقيبة إلى درجة يصعب معها تفضيل أداءه في أيٍّ منها. هكذا نجده قد تغنَّى بدرَّة شاعر الحقيبة صالح عبد السيد الذي يكنى بأبي صلاح، وحينها قال الشاعر الكبير عمر البنا إنَّ أداء وردي للأغنية إيَّاها صورة طبق الأصل لمعنى وذات الأغنية، فقد أوفاها حقَّها. إذ ينشد أبو صلاح في مطلع قصيدته "قسم بي محيك البدري": قسم بي محيك البدري غرامك منو ضاق صدري حبيبي وبي العلي تدري
ستظل أغاني الحقيبة بإيقاعها الخلَّاب مصدر بهجة لمعجبيها، والأغاني الحديثة مصدر غبطة لعشاقها. إذ ذهب أصحاب كل منهل مذاهبهم وطرائقهم. ففيما حافظ أصحاب الحقيبة على طابعها الغنائي، اتَّجه المغنِّيون الحديثون بابتكاراتهم الغنائيَّة والموسيقيَّة منحى آخر. وفي هذا الإطار الفني أحدث وردي – فيما أحدث – تجديدات في سبيل الأغنية السُّودانيَّة بكل ضروبها، ويبدو هذا التحديث في الأغاني الوطنيَّة وغيرها كما سنبين بعد حين في الصفحات التاليات.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة