في تلك الجبال المترامية الأطراف والتي تكتسي حلة من الخضرة اليانعة تمتد من أسفلها حتي أعاليها وتهب سوقها الي عنان الفضآء ويصفق الهوآء بأوراقها في مرح يبعث برودة منعشة تنتشي معها الأجساد وترتاح النفوس ، وتواضع الناس في السودان علي تسميتها بجبال النوبة نسبة لمن يسكنون أرضها من البشر وهم قبائل النوبةالسودانية ، وكانت أرضهم معطاءة جوادة بثمارها ، وسارت حياتهم ومعيشتهم في يسر وصفآء كماء صاف زلال ينحدر من ينابيع نازلا" من بين الصخور الصلدة ، وجبل أفراد هذه القبائل علي الشجاعة الفائقة والبسالة في الحرب مع مهارة استعمال السلاح الناري المتمثل في البندقية منذ زمن بعيد ، وعندما يبلغ الصبي الحلم يكون قد تدرب وأتقن استعمال البندقية ، واقتنآء البندقية شيئ عادي كأقتنآء السكين والعكاز عند قبائل الشمال ولذلك يلتحقون كجنود في الجيش والشرطة ، ومن تعلموا منهم ألتحقوا بالكلية الحربية وتخرجوا ضباطاآ" ووصل بعضهم ألي أعلي الرتب العسكرية ، وكان الغالب أن يحتوي مهر العروس علي بندقية ، وكانوا يسكنون في بيوت داخل الجبل وهو مثل الكهف ويسمي الكركور وجمعه كراكير وتقيهم الحر والقر والحيوانات المفترسة ليلا" وشر الأعداء ، ويحكي أن الأنجليز في حربهم لأجلآئهم من أرضهم أحرقوا الشطة في مداخل الكراكير لأخراجهم منها ، وهي كالغازات السامة في العصر الحديث . ولكن الدهر يتغير ويتبدل مثل أتجآه الريح فمرة تصفو ومرة أخري تكون عاصفة هوجآء ، وتغير وضع البلاد وباشرت الحكم حكومة جديدة بأنقلاب عسكري واستبدلت موظفي الدولة السابقين من المدنيين والعسكريين بآخرين من أنصارها والموالين لها ، ولقي العريف كوكو نفسه في الشارع مع حشد من القوات المسلحة ، ورجع الي بلدته وشرع في زراعة رقعة صغيرة من الأرض يمتلكها وكانت زوجته خميسة ترعاها في غيابه الي جانب ابنآئه الأطفال الأربعة وأكبرهم بنت في الخامسة من عمرها ، وضاق به الحال وازداد ضيقا" بمحاولات رجال الأمن والمخابرات العسكرية مراقبته واستدعائه بين حين وآخر وسؤاله عن الحركة الشعبية المسلحة لشمال السودان والتي ينتمي اليها ابناء النوبة وباضطهادهم لأهالي البلدة بشتي الطرق ومنها شح المواد الغذائية والسلع الضرورية وغلوها أن وجدت ، والأعتدآء عليهم بالألفاظ النابية مما دفع كوكو للتفكير في أن هؤلاء الحكام المحدثين لا خير فيهم ولا يرجي منهم فائدة ، وتحسر علي السنين التي قضاها في خدمتهم مخدوعا" ومضللا" بأسم الدين ، وشاهد كيف أنهم يعيشون في سعة وترف في معيشتهم ويستأثرون لأنفسهم بكل شيئ بينما الناس كافة يعيشون علي الكفاف وعلي ما أقل منه ، وقر رأيه علي أن الخلاص من هؤلاء الناس لا يأتي الا بالخلاص منهم ، وأسر لزوجته بما ينوي عمله وهو الألتحاق بالحركة الشعبية المسلحة ويفيد بخبرته التي أكتسبها أبان خدمته السابقة في القوات المسلحة الحكومية ، ووجد تأييدا" من زوجته وقالت له أنها ستكون في مقام الأم والأب لأبنائهما ، وذهب كوكو وهو راضي النفس عميق الأيمان بماسيقدم عليه من عمل . وخاضوا معارك كثيرة ضد قوات استعانت بها الحكومة من المرتزقة واللصوص ، من البدو من قبائل دارفور ومن تشاد وافريقيا الوسطي وغينيا ، وشتتوا شملهم وأوقعوا بهم خسائر فادحة في الأرواح وغنموا عتادهم الحربي ، ودارت الحكومة هزائمهم الموجعة بالأنتقام من المدنيين الأبريآء العزل بتقتيلهم واغتصاب نسائهم وحرق دورهم وقراهم ، ولجأت أيضا" الي سلاح طيرانها الذي ظل يشن غارات منتظمة علي المدنيين فأحرق ودمر الحرث وانسل والحيوان وكل شيئ يمشي علي الأرض ،ودمرت القنابل المستشفيات والمدارس والمساجد وأصبح الناس مشردين يفترشون الأرض وغطاؤهم السماء ، ويقتاتون باوراق الأشجار ، كما أبتدعت الحكومة نوعا" جديدا" من الحرب وهو قتل الناس بالتجويع وذلك بطرد منظمات الأغاثة الأجنبية من البلاد والتي كانت توفر الغذآء والماء النقي والعلاج والتعليم ، وتوقف كل شيئ ومن لم يمت بقذف القنابل من الطائرات مات بالجوع . وأصبح الأحياء من الناس يعرفون صوت الطائرة المغيرة فيهرعون جريا" الي الكراكير في بطن الجبل للوقاية من المتفجرات التي تلقي بها الطائرة من الجو ، وذات صباح جائت طائرة محلقة عاليا" وحسبها الناس أنها متجهة الي مكان آخر ولكن قائدها أنقض فجأة وأطلق صاروخا" أردفه بقنبلة ، ولم تتح فرصة للناس للجري والوصول الي الكركور للأحتمآء وحملت خميسة طفليها الصغيرين وأمسكت بالأثنين الآخرين جارين الي الكركور ، ولكن الضربة كانت مباشرة عليهم وتطايرت أشلآءها هي وأطفالها في الهواء شاكية أرواحها الي بارئها ومستنزلة اللعنات علي الملاعين المجرمين ... هلال زاهر الساداتي 22يونيو2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة