ما أن نشرت بعض ذكريات الزميل المرحوم عمر مصطفى المكي في حياة الخفاء الشيوعية حتى بلغني من أصدقاء وآخرين بعض محفوظاتهم عن هذه الحياة "تحت الأرض". وهي حياة يتكتم عليها الشيوعيون لأنه يخشون أن يلم العدو القادم بعدة شغلهم ويفسد حيلهم. وصدقوا. ولكن تحريم الكلام عنها بالكلية شطط وتغييب لا لوجه من وجوه عمل الحزب فحسب، بل لسخاء سودانيين عاديين وبطولاتهم التي ليست في رادار الصفوة ولا المؤرخين. وأكثر ذم الشعب يأتي لأننا لم نطلعهم على كياسته وحذقه ومكره على مدار الساعة. اكتنفنا ووقانا الشرور. كتب لي دبورة الصديق قال إنه يذكر زيارة لعمر مصطفى المكي لمكتبة دبورة خلال ما كان يكتب "ست سنوات تحت الأرض" بجريدة الميدان. فالتقى بإبراهيم الكمساري عاشق الهلال والوطني الاتحادي معاً وبصوت جهوري عرف عنه. فما وجد عم إبراهيم عمراً أمامه حتى بادره بصوته الأجش الغليظ ولا يخلو من تمتمة: "ست سنين تحت الأرض يا عمر. إنتا تور دود، تور دود، إنتا تور دود!" فأنفجر الجميع ضحكاً. أما الأستاذ شوقي بدري فقد علق على مذكرات عمر بقصة من قصص تحت الأرض مما رواه الزميل سمير جرجس. قال سكن شيوعيون "مندسين" في حي بانت فوق في أم درمان. وكان الدخول إلى البيت عن طريق موقع تسكن فيه بقرة ووسط مجموعة من المنازل المتداخلة. وكانوا متأكدين من انهم كأنهم يلبسون طاقية الاخفاء ولا أحد يعرف عنهم شيئا. وبعد فترة رحلوا الي بيت آخر. وجاء أحد الرفاق باحثا عنهم. فشاف صبيان يلعبون بكرة الشراب. فواحد شات الكورة نحو الزميل وحصلها وقال للزميل همسا: "الشيوعيين الكانو هني رحلوا". وقصة شوقي فريبة من قصة الشيوعيين الأجرو بيت مشهور للماشي والغاشي إنو مسكون. وكل من سكنه رحل منه يروي قصص الجن والجنبو. ومرت شهور والشيوعيون آمنون إلى سرهم في الحلة. ولكن كان حديث الناس أن الشيوعيين من سكنو البيت الجن ذاتو فك البيرق. وبعث لي آخر بحكاية كيف أخفوا مرة الزميل عبد الحميد على (عبد الحميد جزيرة) بطل التخفي ومسؤول أخطر جبهات الحزب، عطبرة والجزيرة. وما استقر الزميل معهم قليلاً حتى داهم الأمن البيت. وكان عبد الحميد بعراقيه البلدي وسرواله يرقد على عنقريب في آخر الحوش. وكان ضابط الأمن يعرف الصديق ويعرف أن بيته يستقبل أهله من الريف. فنظر إلى عبد الحميد الذي يوحي شكله بشلوخه ومتانة جسمه كأنه سواق قندران أو صاحب مشروع. فلا يشبه الأفندية في شيء. فقال ضابط الأمن للصديق: -دا من أهلكم؟ فما سمع عبد الحميد بقول الأمن حتى اندمج في الدور قائلاً: -يا أولاد أنا كم مرة قلت ليكم جيبو الإبريق. اللهم مطولك يا روح. ومر اليوم بهدوء. ومفردة الإبريق ذكرتني بقصة عن أخي المرحوم زين العابدين. سكن الزين صغيراً مع ابن عمي العزابي الشيوعي في منزل بالقلعة بعطبرة. وكان يغشاه شيوعيو الزمن المسمى بالجميل: قاسم والشفيع. ومرة جاء والد أحد العزابة من البلد وأول ما نزل طلب من الزين الإبريق ليتوضأ. فجاءه الزين بزجاجة من متبقيات هلسهم يقطعون بها الجمار. ولكنه استدرك قائلاً: والله يا عمي أنا أمبارح بس وديت الإبريق للسمكري. وأسرع العزابة بشراء الإبريق لزوم الضيف من يومهم. ذكرتني هذه القصة أخرى مروية عن يوسف عبد المجيد. وشكل يوسف شكل أفندي مضاد خال من الجضيمات وغيرها. وقيل إن الأمن هاجم اجتماع حلقة شيوعية كان هو فيها. فأنسحب بسرعة وجلس على فروة بعيدة من حجرة الاجتماع. ولما فرغ الأمن من القبض على المجتمعين توجه إلى يوسف ولم يشك لحظة في أنه ليس من "الصنف" الشيوعي. فقال له ضابط الأمن: -إنت هنا مالك؟ - والله العشا زنقني دخلت قلتلم أصلي أها أدوني البرش دا وقعدت أصلي. -كانو بيقولو في شنو؟ -ووالله كلمة منهم ما فهمتها. -يا زول! -والله إلا كان بسمعم يقولو فاتل حمامة فاتل حمامة (فاتن حمامة) فتركوه. قصة اندماج عبد الحميد في دور الريفي الزائر ذكرتني بدور اندمجت فيه أنا نفسي خلال كشات ما بعد هجوم "المرتزقة" في 1976. وكنت أسكن مندساً في الحارة 11 الثورة شبه جار للفنان الجفر. وأكتفي منها بهذا القدر حتى لا أفسد مذكراتي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة