أفق بعيد المُتابع لأخبار القضايا التي تُنشر بالصحف وووسائل التواصل الاجتماعي، يكتشف مَدَى افتقارنا لأبسط مبادئ الثقافة القانونية، وجَهلنا بكثيرٍ من الأساسيات، ولولا أنّ المُواطن السُّوداني نفسه يجهل كثيراً من حُقُوقه ولا يَسعى وراءها لكانت مُعظم الصحف قد أغلقت أبوابها بفعل غرامات التعويض لمُتهمين أسميناهم المُجرم والقاتل والمُغتصب.. إلخ، ثُمّ برّأتهم المحكمة، أو حَاكمتهم بجرائم أخرى. أولى القواعد يعرفها ويرددها الجميع دون أن يمتثلوا لها، وهي أنّ المُتهم برئ حتى تتم إدانته، لكن رغم ذلك تتم إدانة المُتهمين في الجرائم المُختلفة كل يوم قبل إدانتهم من المحكمة، ببساطة لأنّنا لا نفرِّق بين المُشتبه به، والمتهم، ثُمّ المُدان. ولا يحتاج المرء أن يكون قانونياً مُتخصصاً لمعرفة المبادئ القانونية الأساسية، فيكفي أن تكون مُتهماً مُزمناً، مثل كثير من الصحفيين، أو من الذين يُتابعون جلسات بعض المحاكمات، لتلم بهذه الأساسيات. دارت هذه الخواطر بذهني وأنا أتابع أخبار محاكمة أصدقاء لي في قضية مركز "تراكس"، فبعد آخر جلسة لتوجيه التهم، خَرَجت الصحف في اليوم الثاني بأخبار تحمل كلمات مثل تبرئة وإدانة، وتَمَادت وسائل التواصل الاجتماعي في استخدام توصيفات خَاطئة لما حدث، وهي مرحلة توجيه التُّهم من المحكمة. تبدأ مثل هذه القضايا بعد تحويل الملف من النيابة للمحكمة، وتُوجِّه النيابة تهماً تحت مواد محددة للمُتهمين، فتستلم المحكمة الملف وتبدأ جلساتها. المرحلة الأولى يتولى فيها الاتهام مُحاولة إثبات التُّهم على المُتهمين وفق المواد المُحَدّدة من النيابة، فَيتم سَماع المُتحرِّي وشُهود الاتهام. ثم يدرس القاضي ما قدّمه الاتهام ويُحدِّد جلسة لتوجيه التُّهم من المحكمة. وعَادةً إما أن يقتنع القاضي بوجاهة التُّهم بالمواد المُحدّدة كلها، أو يقبل التُّهم ببعض المواد ويرفض بعضها بحسب تقديره لحيثيات الاتهام، أو يعدل في المواد، أو قد يشطب التُّهم كلها ضد بعض المُتهمين أو ضدهم كلهم. في كل هذا لا تكون قضية الدفاع قد بدأت بعد، وهذا ما حَدَث في قضية مركز "تراكس"، إذ لم يقتنع القاضي بحيثيات الاتهام ضد ثلاثة من المتهمين فقام بشطب قضيتهم، وعدل التُّهم ضد ثلاثة آخرين. هذه المرحلة ليست فيها إدانة أو براءة، بل قُبول الاتهام أو شطبه، ثُمّ يتيح القاضي للدفاع أن يقدم شُهوده ومُرافعاته في القضية، وفي النهاية يُوازن القاضي بين حيثيات الاتهام وما قدمه الدفاع دحضاً للتهم، ورغم أن القاضي قد قَبِلَ توجيه التهم ضد المتهمين في المرحلة الأولى، إلاّ أنّ من حقه بعد ذلك أن يحكم بما يراه، فقد يحكم في النهاية ببراءة المتهمين بعد سماع قضية الدفاع، أو قد يحكم عليهم بأحكامٍ مُختلفةٍ. ومن المُهم أن نُشير هنا إلى ما ظَلّ يرفدنا به الأستاذ نبيل أديب من مقالات في الثقافة القانونية بلغة الصحافة، فهي مكتوبة أصلاً للقارئ العادي وليس للقانونيين المُتخصصين، وتربط دائماً بين المبادئ القانونية وبين وقائع تحدث على الأرض، وليت الأستاذ نبيل يجمع هذه المواد في كتابٍ، فهي ستُشكِّل مرجعاً لا غنىً عنه لكل المُهتمين وأيضاً المُتهمين المُزمنين. altayar
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة