إذا كان حزب المؤتمر الوطني كما يدَّعي مُنظِروه ، يحوز فعلاً على قدرة معقولة في إستقراء الواقع المعاش للشارع السوداني بعد 19 ديسمبر ، سوف لن يغض النظر بأي حال من الأحوال عن الإشارة الشارعية الواضحة المعالم و الساطعة في إضاءتها و التي أفادت أن هناك زوبعةً ما تطفح على سطح المياه الراكده ، أو ضجراً ما يبدو على الأفق فيما كان يمثُل إعتقاداً على أنه نوعٌ من الرضا و السكون في الشارع السوداني ، أما القراءة الثانية فتتمثل في تبدد فكرة أن جيل الشباب من الذين وُلدوا في عهد الإنقاذ و إجتهدت الحكومة في النأي بهم بعيداً عن تاريخ السودان السياسي القريب و البعيد ، بغية التأثير على توجهاتهم الفكرية و الآيدلوجية ، أثبتوا فجأةً و دون سابق إنذار أنهم قادرون على القفز خارج أسوار الإستلاب السياسي و الثقافي ، و على حكومة المؤتمر الوطني أن تعلم أن شباب السودان الواعد قال كلمته عبر ثلاث محاور رئيسية إعتبرها شخصياً ( وساما ً ) مُستحقاً للوعي و الإستنارة و القابلية للمُضي قُدما في درب التغيير إلى الأفضل ، الأول يتعلق بالمقدرة غير المسبوقة في التواصل الفكري و التنظيمي حول الأهداف بلغة واحدة بسيطة في شكلها و عميقة في مضامينها ، و الثاني إتساع دائرة الوعي بالمخاطر التي إستطاعوا التعرف عليها من مراجعة تاريخ البلاد و أحداثها و أشخاصها النمطية على المستوى السياسي ، فكانوا تلقائياً مُستنفرين ( غريزياً ) ضد الوثوق في الأحزاب السودانية التقليدية و الحديثة و التي جرَّبت حظها في ترتيب أمر البلاد و باءت جل محاولاتها بالفشل بسبب أحادية الرؤية الحزبية السودانية المتمثلة في تقزيم دور الحزب في ( زنزانة ضيقة الطموح ) إسمها الحصول على كرسي السلطة ، و الثالث يتمثل في قدرتهم على الإستهداء على هذا الإسلوب السلمي و الحضاري و الأخلاقي البديع في التعبير عن السخط و عدم الرضا و إيصال صوتهم عالياً واضحاً بيِّن المعالم ، و بغض النظر عن الهدف و النتيجة التي كان ينتظرها من دعوا للعصيان ، تحققت أنم لم تتحقق ، على من يحكمون بلاداً هكذا شبابها و هكذا إبداعهم و أداءهم أن يتريثوا قليلاً و يتفكروا على الأقل في أمر الإصلاح ، فالبلاد الآن ليست في حاجة ماسة لتبدلات عاجلة في أشخاص و أشكال الحكم رغم أهمية الموضوع ، بقدر ما هي في حاجة عاجلة و ماسة لمعالجات فعَّالة و حاسمة و ( مرئية ) في موضوعات رئيسية يأتي في مقدمتها قضية إستشراء الفساد و تمدد شبكاته في قطاعات الدولة و مشاريعها المختلفة و إحالة أمر تولي المناصب الدستورية و التنفيذية في الخدمة المدنية و المشاريع و المؤسسات الوطنية ذات الصبغة القومية لأهل الأمانة و الكفاءة و النزاهة أو بصيغة أخرى ( تفكيك ) منظومة التمكين السياسي داخل هياكل الخدمة المدنية ، ثم بعد كل هذا توجيه واقع الموارد المتاحة و المستحدثة لصالح التعليم الحكومي و القطاع الصحي و دعم السلع الإستهلاكية الضرورية ، فضلاً عن تدخل الدولة عبر أمنها الإقتصادي لتحديد الأسعار و مراقبتها في أسواق السلع و الخدمات و الخروج من دائرة ( الوهم الخيالي ) المسمى الإقتصاد الحُر في بلاد تمثل التعاملات الحكومية في حركتها الإقتصادية أكثر من 90% بينما لا يحصل القطاع الخاص و الذي يمثل الحركة الفعلية للتداول النقدي سوى على 10% ، على المؤتمر الوطني أن يُعدّل الصور المقلوبه و يدفع بأهل السياسة إلى سياستهم و أهل الصناعة إلى صناعتهم و أهل العلم إلى مدارسهم و جامعاتهم و أهل الزراعة إلى فلاحتهم ، كيف صار أصحاب المناصب الدستورية و الإدارية و كبار الموظفين أغنى و أثرى أهل البلاد ، في حين تقوقع التجار المتعففين عن الحرام في بيوتهم و أغلقوا مشاريعهم ، أهلاً و مرحباً بقيادة الشباب و طموحاتهم و أفكارهم المثمرة و الوارفة.