فى إستعراض للعضلات المفتولة وغير المفتولة ورغم أنف الشعب السودانى أعلن الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة – بلهجة متعالية ومتعجرفة – وصاية العسكر على هذا البلد الطيب أهله وهو بطبيعة الحال إعلان يستلزم سفاهة الشعب وعدم رشده مما يتعين حرمانه من أن يكون سيد مصيره.
ما تعلمناه عن الوصاية هى أنها إجراء قضائى يفرض على من يفتقد الأهلية مؤقتاً أو بصفة دائمة لعارض من العوارض القانونية/الشرعية مثل السفه أو العته أو الجنون أو الغفلة أو قصور فى السن، فهلا تكرم سعادة الفريق أن يبين لشعبه متى فقد أهليته ولأى سبب من الأسباب الشرعية؟
على البرهان أن يتذكر – إن خانته الذاكرة – هو أن أقبح الإنظمة فى التاريخ كانت تلك التى صعد فيها الأوصياء فوق رؤس شعوبهم بيد أنهم – رغم كل أشكال الإكراه والعنف – ذهبوا مع الريح الى مزبلة التاريخ، فهل شاء سعادة الفريق أن يدخل المشهد من هذا الباب؟ لا يمكن للقادة العاجزين سوى إنتاج الهزائم.
حتى وإن توفر للبرهان الشروط الشرعية للوصى – ولا اعتقد ذلك – عليه أن يفهم أن فى القانون ما يعرف ب "ناظر الوصى" الذى يتولى مراقبة الوصى نفسه، وفى حال أصرار البرهان على فرعنة الوصاية نقول له أن الشعب السودانى الذى أنت وصيه سيظل ناظرك الى أن تقوم الساعة.
ما صرحت به يا سعادة الفريق هو فى الواقع توحش غير مسبوق فى الخطاب السياسى وإنقلاب كامل الدسم على قواعد الإشتباك التى توافقنا عليها وإرتضيناها على مضض عند هندسة الوثيقة الدستورية ولكنك بهذا الإعلان قررت مقايضة الوثيقة بالعسكر وأن تحتكم بسلاحهم حيث الصوت الواحد لكل كلاشنكوف بدلاً عن صوت واحد لكل مواطن وفى ذلك تكريس لشرعية العنف ومصادرة لسيادة الدولة وإنهاءً لحكم القانون.
المفارقة أن يجد الإنسان نفسه متفقاً – لا فى الدوافع ولكن فى النتيجة – مع الفريق حميدتى فيما ذهب إليه بعفويته وبساطته المعهودة فى أن من خلق الوضع الحالى الذى أوصلنا الى حد إعلان الوصاية هو المكون المدنى وبعبارة أخرى القوى السياسية وهنا وللمزيد من الدقة أضيف من عندى أن الدكتور حمدوك شخصياً وللأسف هو من يتحمل المسئولية الكبرى ويبقى السؤال كيف؟
حسناً، حينما تولت المرأة الحديدية مارغريت تاتشر قيادة بلدها، كانت بريطانيا – رجل اروبا المريض – بغرفة الإنعاش، الجيش الجمهورى الإيرلندى يستبيح شوارع لندن وبلفاست، الجنيه الإسترلينى فى حال سقوط حر ونقابات العمال تعلن الإضراب فجر كل يوم والأرجنتين تغزو وتحتل فوكلاند البريطانية.
لم تكن تاتشر مثقفة أو مفكرة بمعايير بريطانيا ولكنها سياسية بمعنى الكلمة، إمتلكت ما يلزم من رؤية فتمسكت بها وطبقتها بعناد وشجاعة وثقة. خاضت أشرس معاركها مع نقابات العمال المهيمنة على البلد فكسبت المعركة بعد عام من الصمود ومنئذ تحولت بريطانيا من بلد نصف إشتراكى الى أكثر بلدان العالم ليبرالية. تلك كانت تاتشر التى صنعت التاريخ والتاتشرية.
لو أن الدكتور حمدوك – الذى لم يجمع الشعب السودانى من قبل حول رئيس وزراء مثله – لو أنه قاتل منذ البداية بشجاعة وعناد تاتشر فى سبيل مبادئ ثورة ديسمبر التى جرى تقنينها فى الوثيقة الدسنورية ولو أنه إمتلك جرأة المرأة الحديدية فى ممارسة سلطاته الدستورية لما تجرأ العسكر على إحتقارنا وإذلالنا على النحو الذى حدث ويحدث الآن.
خطأ حمدوك أنه لم يراهن على الشعب ولم يستنهض إرادة الجماهير وعوضاً عن ذلك حاول دون جدوى التوفيق بين إجسام غير متوافقة لإختلاف مصالحها وتباين طموحاتها.
صمت أمام تعديل الوثيقة عدة مرات وكأنها عقد إيجار لا دستور أمة، فجرى تمديد الفترة الإنتقالية التى هى غير تامة الشكل ولا منتهية التشكل.
تخلى عن مسئوليته الدستورية فى تحقيق السلام فأختطف العسكر ملف السلام وجاءوا بإتفاق جوبا المثير للجدل.
رغم وعوده المتكررة بل وقسمه الغليظ عجز عن إصلاح المنظومة العدلية وأخفق فى إختيار رئيس القضاء والنائب العام وتكوين المجلس التشريعى.
وافق على تكوين جسم غريب لا مكان له فى الوثيقة ولا الأعراف الدستورية يسمى بمجلس الشركاء فأصبح هو نفسه رهين وسجين قرارات هذا الجسم الذى فاق صلاحياته مجلس الوزراء.
ترأس مجلساً للوزراء عاجز عن تلبية الرهانات الوطنية ويفتقد للإنضباط ووحدة الخطاب ولا يعرفون معنى المسئولية التضامنية لأنهم فرضوا عليك فرضاً ولم يمنحوك حتى فرصة المفاضلة بين مرشحيهم.
دولة رئيس الوزراء ، أنت رجل محترم وما زلت تمتلك الشارع وإرادة هذا الشارع أقوى من أى قوة على الأرض والمطلوب منك أن تجعل هذه الجماهير تنظر إليك بمزيد من الثقة والإحترام ولا يتأتى ذلك إلا بالجرأة والشجاعة فى إعادة الإعتبار للدستور والقانون بوصفهما الطريق الوحيد للخروج من هذه الأزمة.
المطلوب عناد وثقة تاتشر وسترى كيف يتقاطر الشعب السودنى نحوك . عبدالرحمن حسين دوسة مستشار قانونى
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة