يسعى الإنسان بطبيعته للوصول إلى الاتزان في سلوكه ومعتقداته ومعرفته، ولا يحدث اختلال التوازن لدى الإنسان السوي إلا مع وجود قدر من المعلومات أو المعرفة المتناقضة. وهذا التناقض يحدث توتراً داخلياً يشكل نوعاً من المقاومة لما يسببه الإعلام اليوم بكل أشكاله وأنماطه لاسيما ذلك الذي أصبح أداة طيعة في أيدي الأيديولوجيات السياسية العابرة للقارات، إلا من رحم. بيد أن الطبيعة البشرية وفطرة الإنسان تعمل باستمرار لابطال التناقض المعرفي ومن ثمّ الوصول إلى حالة الاتزان والرضا النفسي قبل أن ينعكس ذلك على سلوكه. لكن في حالات الأزمات يغدو مفعول ذلك ضعيفاً لا يقاوم شمول الأزمة. ويؤكد علماء النفس أن التوازن لا يحدث إلا حينما تكون هناك معلومات أو معارف متسقة منطقيا، وحينما تكون الانفعالات والسلوكيات والتصرفات والأفكار والمشاعر، كذلك متسقة مع الأعراف فى المجتمع، وحينما تكون المعلومات والمعارف الجديدة متسقة مع الخبرات والمعارف السابقة. وهذا ما تقضي عليه الأزمات تماماً، فيصبح حجب الحقائق قراراً سياسيا.
حينما أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية قناة فضائية باللغة العربية في عام 2004م قصدت منها التأثير في الرأي العام العربي وتغيير صورتها السالبة التي تعاظمت مع غزوها للعراق في تلك الفترة فضلا عن مواجهة قناة الجزيرة التي لعبت دورا مضادا للتناقض المعلوماتي والمعرفي وداعما للقضايا العربية المحورية لاسيما القضية الفلسطينية. وقد وجُهت القناة بانتقادات واسعة من قبل مختلف النخب العربية نظراً للفلسفة التي قامت عليها، فلم تكن لتجد أي ترحيب من جانب المستهدفين. وبالتالي فإن عزوف المواطن العربي عن متابعتها ظل يستند إلى اقتناعه بأنها وسيلة غير محايدة، ومنحازة ويتناقض محتوى رسالتها ليس مع القيم المحلية بل حتى مع القيم الأمريكية المعلنة المتدثرة بحقوق الإنسان. ومضت تدافع عن سياسة الولايات المتحدة في المنطقة وجريمة احتلال العراق وتدمير كيانه وزرع الفتنة فيه. حتى عندما حاول مدير القناة الأسبق لاري ريجستر تلافي اشكالية الحجر على الآراء التي تمثل نبض الشارع العربي تعرض لانتقادات مباشرة من داخل القناة ومن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس شخصياً. وذلك بعد أن قام ببث خطب شخصيات مناوئة لأمريكا مثل رئيس الوزراء الفلسطيني حينها إسماعيل هنية، ولأنه طلب أيضاً من مذيعي القناة أن يضيفوا بعد كل إشارة إلى النبي محمد، عبارة -صلى الله عليه وسلم-. فرغم أن الرجل لم يكن ليعمد على تغيير جذري يطول التنافر المعلوماتي داخل رسالة القناة لكنه تعرض للتوبيخ والطرد لمجرد أنه أراد إجراء عمليات تجميل ظاهرية لصورة القناة لعل ذلك يغطي على الاختلال الرئيسي فيها. ولعل سائر الإعلام الغربي يغرف من ذات المعين، وقد أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية الحالية فشل الإعلام الغربي في اختبار المصداقية التي تُعنى بالمؤشرات والمعايير التي تحدد مدى صدق المضمون الإعلامي من كذبه. ومصداقية الوسيلة الإعلامية تكمن ببساطة في قابلية الوسيلة للتصديق أو الاعتقاد في صدقها أو امكانية الاعتماد عليها أو احترامها وتقديرها وتفضيلها كمصدر جدير بالثقة. في ظل هذه الظروف بات المواطن الغربي يسمع ويشاهد ويقرأ ما تقوله وسائل إعلام هذه الدول عن الحرب في أوكرانيا ويطلع على مواقف الحكومات الغربية من الأزمة الأوكرانية، بينما تغيب تماما الرواية الروسية وموقف القيادة الروسية عن وسائل الإعلام الغربية. وفي اطار هذه الأزمة بدأت قدسية الخبر تتهاوى وظهر ما يعرف بالخبر المضاد، والخبر المعاكس، والخبر المفبرك، والخبر الإشاعة، والخبر بالون الاختبار، والخبر (اللا خبر). فالمعارك في خضم هذه الحرب لم تقتصر على المعارك الدامية بين قوات المعسكرين المتحاربين التي تسيل الدماء وتدمر القرى والحضر؛ بل هناك معارك في سوح الإعلام بذات الشراسة تسيل فيها دماء الحقيقة والموضوعية بل إنها تغتال في نهاية الأمر. تقول البي بي سي في تقرير لها إنه عقب اشتعال شرارة الصراع فرضت روسيا والدول الغربية المزيد من القيود على العديد من وسائل الإعلام ووصل الأمر إلى حجب ومنع العديد منها بهدف التحكم بالرواية حيث يريد كل طرف أن يكون الوحيد الذي يتناول ما يجري على أرض المعركة وتقديم الحجج والمبررات التي يرى أنها ضرورية لكسب تعاطف الرأي العام ووقوفه إلى جانبه. وفي مطلع هذا الشهر أصدر الاتحاد الأوروبي قراراً حظر بموجبه قناة "روسيا اليوم" و "سبوتنيك" الروسيتين ومنعهما من البث في دول الاتحاد وأغلق مكاتب القناتين بحجة نشرهما معلومات مضللة. كما تم حجب موقعي القناتين على الإنترنت ولم يعد بمقدور المواطن الأوروبي معرفة ما يجري في أوكرانيا من منظور روسيا. بل وصل الأمر إلى الطلب من جوجل حجب اسمي الوسيلتين الإعلاميتين تماما بحيث لا تظهران حتى لدى البحث في محرك البحث. أما روسيا فقد حظرت تطبيق إنستغرام بسبب "الدعوة لقتل جنود روس" اليوم العالم أمام أزمة مصداقية الإعلام، وغدا الحديث عن معايير المصداقية التسع نوعاً من الترف النخبوي. وهي كانت معايير صارمة تؤطر لضرورة التزام وسائل الإعلام بدقة الأخبار والمعلومات وصحتها، وشمولية التغطية الصحفية، في عرض وتقديم مختلف جوانب الحقيقة، فضلا عن الواقعية والأهمية والفورية والتوازن والموضوعية. والموضوعية كذلك مطلوبة حتى فيما يكتبه صاحب الرأي، فإن كان الخبر معياره الدقة، فإن الرأي. معياره موضوعية الكاتب. حُرية الصحافة أو حُرية وسائل الاتصال تُعَد هي المَبدأ الذي يشير إلى وجوب مراعاة الحق في ممارسة الحرة للاتصال والتعبير عن الرأي من خلال كافة وسائل الإعلام تَتَضَمن هذه الحرية غياب التدخل المفرط للدول، وحمايتها بالدستور والقانون. وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1948 أن: "لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير؛ ويتضمن هذا الحق حرية الفرد في تكوين آراء بدون تَدَخُل أحد، والبَحث عن واستقبال ونقل المعلومات والأفكار من خلال كافة وسائل الإتصال بصرف النظر عن حدود الدول".المعلومات والأفكار من خلال كافة وسائل الإتصال بصرف النظر عن حدود الدول".
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 03/18/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة