يظل سؤال كيف توفى محمد أحمد المهدي سؤالا ممنوعا ومحرما طرحه في اضابير الطائفة المهدية الى يوما هذا . لأن طرحه يفقد هذه الجماعة قدسيتها وروحانيتها التي اكتسبتها من جهل المجتمعات التي نشاة فيها وبنت عليها تاريخها فيما بعد . كذلك يسهم السؤال في توجيه النقد والتحليل للمهدية كتجرُبه إنسانية وليس إلاهية ، فهي بالتالي قابلة للخطأ والصواب والجرح والتعدل من منظور معاصر وحداثي يسهم في فهم الماضي والتخطيط للحاضر لبناء واقع أفضل لمستقبل الأجيال القادمه . ويقول مفكرنا حاج حمد في تحليلاته عن وفاة محمد أحمد المهدي (إن أي باحث معاصر في منشورات المهدي ورسائله لا يسعه إلا أن يلمس هيمنة فكرة المهدية عليه ليس المهم قوله بالمهدوية بل المهم كان يصدر في كل أعماله عن روح مزجت بين الزهد والسعي في الأرض بالإصلاح. غير أن شخصية المهدي شيء والواقع السوداني الذي فرض توجهات مختلفة شيء آخر . ولفهم هذه النقطة الأساسية وعلاقتها فيما بعد بالحركة السياسية السودانية المعاصرة لا بد أن نلجأ إلى قليل من التحليل. لقد تجمع غرب السودان من حول المهدي باعتباره مهدياً (منتظراً). وقد كان الغرب يعني جماع (الفور والمسبعات وتقلى)، وهي بحداثة إسلامها وبإنعزالها الإقليمي الجغرافي الطبيعي عن مراكز الحضارة المتوسطية، بالإضافة إلى تركيبتها الاجتماعية - القبلية ، لقد اختار التعايشي بحنكة تكتيكية هذه القاعدة لبعدها عن مراكز السلطة من ناحية ولوعورة مسالكها من ناحية أخرى كمركز للحشد والانطلاق. وقد تقبل ذلك الواقع بسهولة فكرة المهدي المنتظر بالإضافة إلى تأثير بعض الدوافع المحلية في إطار مشكلات العلاقة التاريخية بين القبائل نفسها. قد كان عملاً موهوباً للغاية أن يجد ذلك الشتات الغربي الممزق رجلاً محنكاً كمحمد أحمد المهدي ليلتف من حوله.
غير أن ذلك الواقع الإقليمي في غرب السودان كان يقابله واقع آخر في وسط السودان وشماله حيث القبائل هنا عربية التكوين في الغالب الأعم، وهي تعني تاريخياً تلك الدائرة التي احتواها نشاط العبدلاب طوال ثلاثة قرون من قبل التركية ثم إن إسلامها تراثي راسخ يمتد إلى الهجرة به من أراض عربية مجاورة أو إلى اعتناقه ضمن فترة تاريخية قديمة. ثم إنها أكثر اتصالاً بالحضارة المتوسطية عبر انفتاحها على مصر وبالذات في العهد التركي، ثم إنها تعبر عن مجتمع زراعي يحمل سمات اجتماعية مختلفة وأطراً فكرية أكثر نضجاً. هذا الواقع لم يبايع المهدي (منتظراً) بل بايعه (منتصراً) وقد ظلت عيونه مفتوحة على ما يجري من حوله. وما يجري من حوله خطير في الداخل والخارج. بمعنى آخر يمكن القول أن القيادة المهدوية - وأعني بها قيادة المهدي شخصياً - قد انتشرت على سطح تركيبتين مختلفتين، لكل منهما سماته الإقليمية وجذور تكونه واتجاهات تطلعه فحيث يمضي الغرب إلى خصوصية محلية بحكم تكونه يمضي الوسط والشمال إلى ما يتجاوز خصوصية ذلك الواقع، أي بميل واضح نحو أطر إسلامية - عربية جامعة كادت أن تستلب في العهد التركي خصائص التوجه الذاتي الداخلي. فكيف يدامج المهدي ما بين هذا وذاك .. أو كيف يدامج محمد أحمد بن عبد الله ما بين (المهدي المنتظر والمهدي المنتصر). تأتي صعوبة المعادلة التركيبية المفترضة هنا من أن المهدي لم ينطلق لأسباب موضوعية - من أطر المجتمعات النيلية الزراعية علماً بانتمائه لها فهو من أبناء الشمال، هذا يعني. أن المهدي قد اختار طرح مفهومياته حول الدين والإصلاح خارج الدائرة التي تملك حق المحاكمة الحضارية الصحيحة نسبياً في الواقع السوداني لأفكاره لم يخترها كقاعدة له وقد كان يدرك أنها تتعامل معه بحكم الأمر الواقع. لذلك كان حاسماً في تكفير من لا يؤمن بمهدويته وقد سبق ذكر إعدامه الفوري في غرب السودان للقاضي ميرغني الذي واجهه ببطلان دعوته. لقد توفي المهدي صغيراً أي دون سن الثانية والأربعين تقريباً، وفي ظروف لم يعرف أنه قد شكا فيها آلاماً علماً بإقلاله من الطعام وميله إلى عدم تعاطي اللحوم، بالإضافة إلى مجاهداته الصوفية التي تمنحه وضعاً روحياً ممتازاً، وقد جاءت هذه الوفاة إثر انتصاره الذي كان سيؤدي إلى أوضاع جديدة في الدائرة المحيطة ضمن ما عرف من موجبات الاستمرار في الدعوة وأزيد إلى ذلك أنه كان هو وليس غيره مصدر الجذب الشعبي، وقد برهنت القبائل من حوله على شجاعة نادرة فهل هو حدث عارض بعد كل هذا أن يتعجل كتشنر فور دخوله أم درمان نبش ذلك الجثمان وقد أخرج جسد المهدي من مثواه الذي أصابه التدمير وأحرق بناء على أمر كتشنر الذي أقر بأن الرأس قد جرى دفنه في وادي حلفا ( أقصى شمال السودان) ويذكر (هولت) في موضع آخر: لم يطل مرضه ومن ثم سرت الشائعات بأن إحدى محظياته التي تم أسرها في الخرطوم قد دست له السم والاحتمال الأقوى أن وفاته كانت طبيعية وينسبها سلاطين لإصابته بحمى التيفود. إذن ماذا كان يفعل سلاطين باشا النمساوي هناك وهو القادر على الفرار متى شاء وبنفس الوسائط التي كان يرسل بها حصيلة استخباراته لأركان القيادة الإنجليزية في مصر؟ إن الذي قرر إخلاء السودان لم يكن غافلاً عن خطورة شخص كالمهدي في الانتصار، خصوصاً وقد تفاعلت به قلوب المسلمين فكان لا بد من ربط حالة خطة الإخلاء بخطة للقضاء على المهدي نفسه وقبل بنائه للدولة، والله أعلم. كيف كانت ستحل المعادلة التركيبية بين توجهات الغرب والنيل لو قيض للمهدي أن يستمر في الحياة؟ لعل الأمر هنا لن يكون من قبيل التنبؤ كان يمكن للمهدي - وهو ابن النيل وتراثه - أن يخرج بالغرب من الخصائص المحلية لإقليميته باتجاه انفتاح سوداني عريض يتدامج فيه الغرب مع النيل. وكان يمكن للمهدي أن يميز موقف العروبة النيلية بطريقة لا يستلبها فيه الشمال المتوسطي أياً كان وضعه إلا على نحو إيجابي، أي بالمدى الذي يكون فيه الشمال المتوسطي إيجابياً مع نفسه عروبة وإسلاماً بمنطق ذلك العصر، لا أن يستلب السودان مجرد استلاب بحكم النفوذ والمصالح كما كان عليه الأمر. فإمكانية أن ربما يرى البعض أن المهدي كان سيعد العدة لغزو العالم الإسلامي خصوصاً وأنه قد حاول أن يستخلف سنوسي ليبيا وأعلن العزم على تطهير العالم الإسلامي. غير أن المهدي ولو عاش وأراد أن يفعل لما تعدى الحدود التي وصلها خليفته من بعده عبد الله التعايشي [۱۸۸۰ - ۱۸۹۸] يحرر المهدي العالم الإسلامي بقبائل الغرب أو بقبائل السودان كلها لا تعادلها إلا إمكانية حكم (الرباطاب منفردين للسودان. فالبعض من الذين وثقوا بإمكانية ذلك الدور المهدوي على مستوى العالم الإسلامي كانوا أقرب إلى التأثر بوتيرة الفتح المهدوي المتسارع دون فهمه في إطار ملابساته التاريخية لم ينظروا لتجربة عرابي حيث تدخل البريطانيون فسحقوا قواته في التل الكبير عام ۱۸۸۲م ولا لتجربة عبد القادر الجزائري.)
نواصل..... الأربعاء 22/فبراير 2023م
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق February, 20 2023
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة