رغم الظروف العصيبة، منّ الله علينا بزيارة خاطفة للوطن وللبلد، (والفرق ما يحتاج شرح) وصدق من قال "ليس من رأى كمن سمع" ونصح القائل "لا تصّدق كل ما تسمع، ولا نصف ما ترى" وفيما يخص تقييم الوضع العام للبلاد، يعتمد المشهد على زاوية رصد المشاهد، والذي يختاره كيف ما يود، ومقادير التشاؤم والتفاؤل لديه. ومن المعلوم بالضرورة، أنّ البلاد طريح الفراش، وتمر بمرحلة هشاشة، وضعف عام غير مسبوقة في تاريخه الحديث، ومن آداب زيارة المريض، غض البصر عن مواضع العوار والجروح، وعدم التلصص تحت الغطاء، ومن الواجب الاهتمام بطمأنة المريض ورفع معنوياته، ومن قلة الأدب، إبداء الشفقة عليه، أو تذكيره بالذين رحلوا بنفس العلة، وعدم الإكثار من طرح الأسئلة عليه.
ومن الآداب أيضا اختيار الوقت المناسب لزيارة المريض، ونرجو السماح والاعتذار للوطن عن عدم إلتزامنا بذلك، فقد تزامن حضورنا مع مليونية 30 يونيو العاتية ببضع أيام، ورغم عدم مشاركتنا الفعلية فيها، وحسب صدق نوايانا، فقد وقعنا بالصدفة اليوم التالي للمليونية، في كمين بين ترسين، تسمّرنا لا إرادياً في سياراتنا، وشربنا البمبان بأريحية مع طفلي الرضيع، حذرنا سائق الترحال من مغّبة رفع زجاج السيارة على حياة الطفل ذي التسعة أشهر، والذي أضررنا لسقيه ماء الأبريق من سائق شاحنة مجاوزه لنا في المأزق، لأن درجة حرارته أقل من درجة حرارة الماء في بزته الخاصة، رغم أنّ الوقت قد تجاوز الثامنة مساءً. بقدرة قادر، تجاوزنا مسرح العمليات، تحت وابل من حجارة البواسل الغاضبين من مقتل سبعة من رفاقهم يوم الثلاثين من يونيو، وأزير بنادق مسيّل الدموع، لندخل في لعبة المسارات المغلقة وسط أزقة أحياء بانت والمهندسين والموردة والدايات. رغم كل شيء كنا سعداء بالتجربة، ومتقبلين الموقف، ولم تبرح مخيلتنا أرواح الشرفاء الذين استبلسوا من أجل استعادة عافية البلاد. موقف الشارع متسامح مع للتروس ومتفهم لخيارات لجان المقاومة رغم المتاعب.
التشخيص المعتدل، أنّ البلاد مريضاً سياسياً، وأخطر ما فيه استمرار إزهاق أرواح الشاب العزّل، وهو الأمر الذي ينبغي أنّ يكف عنه القتلة والإنقلابيين فوراً، كفى استرخاصا للدم السوادني، وليعلم القتلة، أنّ الدم الحرام، لن يخلدهم حكاماً على رقاب الشعب رغم أنف أرادتهم. لا يجدر بنا التعايش مع القتل، في هوامش وقلب البلاد، فالذين يرحلون منا لن يعودا أبدا، وما عدى ذلك بالإمكان تداركه.
صحيح أن البلاد عليل سياسيا، إلاّ أنّ صحته العامة يبشر بالخير، وما بين فظاظة العسكر، وخيابة المدنيين، تعتبر تحت الغطاء المريض لن نخوض فيها، وما عدى ذلك يشكل بيئة خارجية محيطة بالمريض، نتطرق لها إجمالاً، ونأمل ألاّ يؤثر سلباً على مساعِ التطبيب والخلاص.
نتيجة لهذه الحالة المرضية، وبسبب التدهور الصحي للبلاد، يلتزم الجميع المشيء "جنب الحيط" مع الحِيطة والحذر، والحذر كل الحذر أن تقع في مشكلة، وإن حدث، عليك الجنوح إلي حلها ودياً، وألاّ تعّول على أية جهة، اعتبارية عدلية كانت أو أمنية، الأفضل الجودية اللحظية كيفما اتفق، فالبلاد تعيش حالة اللادولة بكل أسف.
آثرنا الاستماع إلى مداولات مجالس المدن، التي تعاني من حالة خمول، وونسات ضريان الضهاري غير المبالية بما يحاك في الخرطوم، في سديم كليهما، هناك شبه إجماع على رفض حكم العسكر، وإنقسام حول أهلية مكونات المشهد السياسي، وتوهان حول أسس بناء الدولة المدنية الديمقراطية، رغم وضوح الرؤيا فيما يخص كيفية هزيمة إنقلاب الـ 25 من أكتوبر.
الغضب العارم، لم يخطئ هدفه ضد د. جبريل بصفته الاعتبارية كوزير للمالية، وحنق متنامي ضد حركات إتفاق جوبا جملة واحدة.
واتساقاً مع آداب زيارة المريض، سيما إن كان مبجلا، ليس مجديا، طرح تساؤل "ليه" فيما يخص أسعار السلع والخدمات، النظرية السائدة take it, or leave it فالسوق "الحر" تولى زمام المبادرة، وهو سيد الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد سعر أي شيء.
تدهور سمعة الجامعات الحكومية، بسبب عناد طلابها، ورفضهم التعايش مع الإنقلابيين، ولم تتردد الجامعات الخاصة في الاصطياد في المياه العكرة، والاستثمار في حالة البلاد الصحية، لرفع أسهمها بالاستقرار الاكاديمي وتوالي تخريج دفعاتها.
مظهر السيارات المصطفة على شارع النيل ــ أم درمان من كبري شمبات إلي مشارف كبري الحلفاية، والتي تشكل زريبة حول ستات الشاي، تحت جنح الظلام الدامس إلى أنصاص الليالي، مظهر قبيح مثير للشبهات والمخاوف، يختلط في أجوائها عبق كمائن الطوب مع روائح الحشيش، يدفع الحذرين للضغط على البنزين لتجاوز المنطقة بسلام.
الريف السوداني، بأواسط غرب السوداني، بخير، آمالهم في النماء، متعلق برب السماء، رغم أنّ آثار المخدرات السائبة في شوارع الخرطوم قد امتدت إلى هناك، وغير مفهوم أنّ يركد محصول الصمغ العربي، ولم يجد من يشتريه، أو يضع له إعتبار؟
موقف السلطات المرورية سلبي ومتردد فيما يخص السماح ضمنياً، باستخدام سيارات البوكو الواردة بكثافة من ليبيا، بدون لوحات، وكأنها دراجات هوائية، الأجدر بها، منحها لوحات مؤقتة حفاظا على السلامة والأمن العام، لكن من الواضح أنّ سطوة المركز، تقف ضد هذه الخطوة.
رغم الإحن والمحن، وجه البلاد لا يزال مشرقا، يبشر بالخير، صبوحاً مضيافا، ومهما تقاصرت مظاهر الجمال الحسي في شوارعها وأزقتها، يظل الوطن هو الحقيقة، وما عداه مجاز، ومهما تفاقمت مظاهر القبح، يظل الوطن هو الواقع وما عداه زيف و"عاريّة".
عشق البلاد لا ينبغي أن يكون مشروطا، وحب الأوطان لا يجدر به أنّ يتعلق بمظهره الحسي، أو واقعه المرحلي، تذكرنا رائع العملاق محجوب شريف، وغناء القامة محمد وردي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة