القرآن الكريم دعا إلى صلة الرحم باعتبارها عماد استقرار وصمام امان بالنسبة للمجتمع المسلم، وعندما تنعدم تلك الصلات تبدأ مؤشرات انفلات الأمن الإجتماعي ويظهر الفساد في الأرض. قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}(محمد،22) فجعل قطع الأرحام من الإفساد في الأرض، ثم أخبر بأن ذلك يستوجب لعنة الله والحرمان من الانتفاع باهم نعمتين وهما السمع والبصر، فقال: (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم).(محمد 23). ولكن الملاحظ ان هناك التباس في مفهوم الصلة في زماننا المعاصر، بعكس ما هو في الازمان السابقة، وقد يرجع هذا الي ضعف صلتنا باللغة، فكثيرا ما نأخذ الحقيقة علي سبيل المجاز والمجاز علي سبيل الحقيقة. فقد تغير مفهوم الصلة حتي صار البعض يتحدث عن مجرد زيارة الارحام. فعندما يحض الرسول (ص) علي صلة الرحم انما يبين آيات القرآن التي تتناول في مناسبات عديدة موضوع الاحسان الي ذوي القربي: - (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) البقرة: 177 - (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) النساء: 36 - (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) النحل: 90 - ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) الإسراء: 26 - (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى) النور: 22 -(فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ) الروم: 38 -(وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) الأنفال: 75 ،الأحزاب: 6. ولكن كيف عرفنا ان المقصود من أحاديث الرسول عن "صلة الرحم" هو ما دعا اليه القرآن من "ايتاء ذي القربي"؟ الحق انّ هذا ما قاله المفسرون، فمعظمهم لمّا فسّروا عبارة (ايتاء ذي القربي) لم يزدوا عن قولهم "هو صلة الرحم" ونذكر من المفسرين علي سبيل المثال: القرطبي والسمرقندي والثعلبي والسمعاني والبغوي والزمخشري وابن عطية والبيضاوي والنسفي والرازي. فقد جاء مثلا في تفسير السمعاني: "قوله تعالى: (فآت ذا القربى حقه) أكثر المفسرين على أن المراد من إيتاء ذي القربى هاهنا صلة الرحم بالعطية والهدية". انظر! لقد قال "صلة الرحم بالعطية والهدية" ولم يقل بالزيارة. ان الزيارة لا تعدو ان تكون ناتجا عرَضيا للصلة، فالزيارة وسيلة وليست غاية؛ لا يمكن لاحد ان يقول ان المقصود بايتاء ذي القربي ان نعطيه زيارة! فبمراجعة الآيات السابقة يتبين لنا ان الصلة لها علاقة بالمال، تأمل العبارات: (ولا تبذر تبذيرا) ، (واتي المال علي حبه) ، (اولي الفضل منكم والسعة) الا تدل علي ان الامر لا علاقة له الا باعطاء المال او المساعدة المادية؟ فلابد لمن يسّر الله عليه في الرزق ان يعين أقرباءه ممن رق حالهم. يقول فخر الدين الرازي في تفسيره لقوله تعالي (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) النساء1:"العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول: أسألك بالله والرحم، وربما أفرد ذلك فقال: أسألك بالرحم" ،ويفسر الرازي: "واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والإفضال والإحسان". وجاء في كتاب "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الاثير: "قد تكرر في الحديث ذكر صلة الرحم. وهي كناية عن الإحسان إلى الأقربين، من ذوي النسب والأصهار، والتعطف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم. وكذلك إن بعدوا أو أساءوا. وقطع الرحم ضد ذلك كله"، فابن الاثير يشرح بوضوح ان عبارة "صلة الرحم" هي (كناية عن الإحسان إلى الأقربين)، واستعمال الكناية كثير في كلام العرب لانهم يحبون ان يؤدي المعني بطريقة غير مباشرة، ومن امثلتها التي تدرس في المدارس وصف الخنساء لاخيها صخر بأنه: طويل النجاد رفيع العماد كثير الرماد، ومن الامثلة الاخري قولهم: فلان نظيف اليد، وفلان يشار اليه بالبنان، ويكني القلب بأنه موطن الاسرار، وبأنه مجمع الاحقاد، وهناك عبارات معروفة: هادم اللذات، بيضة الديك، الذهب الاسود، الذهب الابيض، بنت الدهر؛ وحتي في كلامنا الدارجي نقول: فلان قلبه ابيض او اسود، وعينه حارة او باردة، وعينه زايغة، وعينه طلعت، او زيته طلع، ودمه تقيل او خفيف، ونفسه قصير او طويل، ولسانه طويل، وبطنه غريقة، ويده خفيفة أو طويلة، وشخص بارد، وشخص مرطب، هذه كلها كنايات لا يراد بها المعني المباشر؛ ومثلها "الصلة"، فهي ليست مثل "الوصل" بين الاحبة، الذي يتم بمجرد اللقاء، ولكنها كناية عن عطاء مال او أي شئ ينتفع به. ويوضح ابن الاثير شرحه لكناية "صلة الرحم" فيقول: "فكأنه بالإحسان إليهم قد وَصَل ما بينه وبينهم من علاقة القرابة والصهر". وجاء في تهذيب الأخلاق لابن مسكويه: "وأما صلة الرحم فهي مشاركة ذوي اللحمة في الخيرات التي تكون في الدنيا". وجاء في تفسير الطبري عن حبيب المعلم، قال: سأل رجل الحسن، قال: أعطي قرابتي زكاة مالي فقال: إن لهم في ذلك لحقا سوى الزكاة، ثم تلا هذه الآية (وآت ذا القربى حقه). وفي مسند أحمد عن سلمان بن عامر، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: (الصدقة على المسكين صدقة، والصدقة على ذي الرحم اثنتان: صدقة، وصلة)، وفي تفسير القرطبي: "قال مجاهد وقتادة: صلة الرحم فرض من الله عز وجل، حتى قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة". وهناك شواهد اوردتها كتب السنة تبين لنا بوضوح المراد من "الصلة": ففي صحيح مسلم عن ابن عمر ان أعرابيا لقيه في الطريق كان صديقا لابيه عمر، فأعطاه حمارا كان يتروح عليه، وعمامة يشد بها رأسه ليتقي الحرّ، وقال: إني سمعت رسول الله (ص) يقول: (إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولّي)، فابن عمر لم يأخذ عنوان الرجل ليسجل له زيارة في بيته، وانما اعطاه شيئا ينتفع به. وفي صحيح مسلم ايضا عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت رسول الله (ص)، فقلت: يا رسول الله، قدمت عليّ أمّي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: (نعم، صِلي أمك). فهنا الام عند بنتها، في منزلها، ومع ذلك تقول "أفأصِل أمّي؟" فمعني كلامها اذن: "أفأعطيها؟" – قولا واحدا لا يحتمل التأويل، فقد ذَكَرت ان أمها "راغبة" اي طامعة فيما عندها. ومن الاحاديث التي يساء فهمها في المسألة قوله (ص): (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها). هذا الحديث لا يمكن ان ندرك معناه الا من خلال قراءتنا لآية قرآنية: (وما اتيتم من ربا ليربو في اموال الناس فلا يربو عند الله): قال السدي: الربا في هذا الموضع: الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة، لأن ذلك لا يربو عند الله، لا يؤجر عليه صاحبه، ولا إثم عليه، وهكذا قال قتادة والضحاك. قال الواحدي: وهذا قول جماعة المفسرين. قال الزجاج: يعني دفع الإنسان الشيء ليعوض أكثر منه، وذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه، لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه. فصلة الرحم ليس تبادل عطاء، اي تعطي من يعطيك، وانما تعطي للمحتاج من الاقارب وهذا معني: اذا قطعت رحمه وصلها والمقطوع هو الذي انقطعت به السبل. وهناك حديث اخر في نفس الموضوع: جاء رجل ال النبي (ص) فقال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال: «لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك). فمعني "اصلهم ويقطعونني" انه يعطيهم اذا احتاجوا، ولكنهم لا يعطونه اذا ما احتاج. الغريب ان البعض يطبقون صلة الرحم بفطرتهم فهم يبعثون لاقربائهم المحتاجين الطعام والكسوة وغيرها، ومع ذلك يعتبرون انفسهم قاطعي رحم لانهم مقصّرون في الزيارة! وفي الجانب الاخر يجتهد الكثيرون في الزيارة، ولا يساعدون أقاربهم المحتاجين بشئ علي الاطلاق! لقد تلمسنا ذلك الانحراف الكبير في مفهوم "الصلة" من حواراتنا مع الناس ومما يرد في خطب ودروس الدعاة، فللاسف اختزل بعضهم المسألة في ما سموه "زيارة الارحام"! هذا بالرغم انهم يختمون خطب الجمعة بتذكير الناس: (ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربي)! وقد يكون سبب ذلك الانحراف ما طرأ من منافسة بين ذوي الرحم انفسهم، كل يريد ان يعيش افضل من اخيه او اخته، فالفوارق الاجتماعية زادت واصبح الكل في سباق لتحصيل اقصي ما يستطيع من زخارف الدنيا، فصار هناك حياء من ذكر ان الاقرباء في حاجة الي بعضهم البعض، ولكن الله لا يستحي من الحق، والله له حِكَم فيما يأمر وينهي، ومن تلك الحكم انه سبحانه لا يريد ان يكون بين الاقارب غبائن وضعائن وغِلّ وحسد، ولذا فقد بيّنت السنة ان أعظم الصدقات اجرا علي الاطلاق الصدقة علي ذي الرحم "الكاشح"، أي الذي تبدو منه العداوة. لا نستبعد ان يكون الضيق والضنك الذي يعانية معظم المسلمين اليوم هو بسبب تيهنا عن ادراك المعني الصحيح لصلة الرحم، واعتقادنا انها بالرجل وليس باليد، ونخشي ان يكون البعض قد قصد الانحراف بالمعني فغيّر في الدين بمبررات واهية- بحسن نية! مثلما فعل نوح الجامع، احد زهاد السلف الذي وضع احاديث فضائل السور ظنا منه انه يرغب الناس في قراءة القرءان، فصار الامر الي اكتفاء الناس بثماني سور منه تبدأ بالكهف وتنتهي بالملك! هل خاف بعضهم من اعتماد الاقرباء علي اقاربهم، وان يكون ذلك مدعاة الي التبطل مثلا؟ إن هذا الا فقه البخلاء، الذي يدلّل علي شح الأنفس، فالنفس قد جبلت علي الشح: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر9، وقد نسي هؤلاء ان الله تكفل بتعويض الواصلين اموالهم، بل تكفل بان ينمّيها لهم ويبسط رزقهم بل ويمد في اعمارهم، يقول (ص): (من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه). والناس لا يدرون علاقة بسط الرزق واطالة العمر بالصلة، وهذا ما اوضحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (قال العلماء: معنى البسط في الرزق البركة فيه، لأن صلة أقاربه صدقة، والصدقة تربي المال وتزيد فيه فينمو بها ويزكو)، فالقاطعون للخير عن اقاربهم يفوّتون فرصة كبيرة لزيادة اموالهم (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) محمد: 38. صراحة نقول ان من اكبر مشكلاتنا اننا نعتبر مواد الدين هي مواد للحفظ فقط وليس للفهم، وقد ظل النظام التعليمي في بلداننا يستوعب للكليات والمعاهد الدينية من حصلوا علي ادني النسب في التعليم العام، بل ان بعض من تلك الكليات تقبل غير الناجحين! ولذلك لا يقبل السادة الشيوخ اقل مناقشة من اجل الفهم، ودئما يصفون لك المراجع التي اخذوا هم منها علمهم. ننصح اخوتنا المسلمين ان يتدبروا جيدا النصوص الشرعية ويربطوا بعضها ببعض، لان الدين مصدره واحد، هو القرآن الذي بينته السنة: (افلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) النساء:82.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق June, 05 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة