عشقنا الدراما السودانية لا يوصف، وقناعتنا راسخة بفاعليتها وتأثيرها الإيجابي على الظواهر الاجتماعية السالبة لا راسخة، لذا تجدنا أحرص الناس على متابعة الجادة منها، وتمحيص محتوياتها بتأنٍ، من خلال عدسة مشاهد (شويف سينما).
بعد غياب مطوّل للأعمال الفنية الجادة، عرضت مجموعة فضيل الكوميدية، مسلسل ثلاثة في حبل خلال شهر رمضان المنصر، فلهم الشكر، فقد جعلوا "للمتنا الأسرة نكهة، بددت قلقنا على مستقبل العمل الدرامي السوداني.
عرض المسلسل في ظرف دقيق تتصاعد فيه وتيرة الصراعات القبلية والعشائرية على الأرض، بدافع السطلة والسيطرة، فكان موفقا في توقيته ومحور حواراته.
وفّق المخرج الكبير وصاحب الفكرة أبوبكر الشيخ في الكثير من جوانب المسلسل، حيث أسند شعر المقدمة للشاعر الكبير خالد شقوري، واللحن إلى ملك الطمبور ومحبوب الجماهير محمد النصري، ومزج الشخصيات بني جيل المخضرمين وجيل الشباب، (قسم الإلة حمدالله، سيد أحمد محمد الحسن، مجدي عبدالله، عزة محمود، رجاء عركي، أحمد البكري) فكانت المشاهد متكاملة، رغم تشتيت الحيز المكاني ومحاور الصراع.
يخرج عمدة الخير، عمدة الفاضلاب، كمرسال من ابنة أخته (فضيلة) بحثا عن زوجها بطل المسلسل فضيل المتزوج الدس في الخرطوم كرش الفيل، بمرافقة خاصة (مليوة) والمرسال، مشى وما جاء! كما غنى وردي، يقع ثلاثتهم في حبائل نساء الخرطوم، عبر هارون المأذون (سعيد نورالدين)، يكملوا زيجات متعجلة، أثناء هذا التغيب والغرق في أوحال الخرطوم الاجتماعية، ينفذ عمدة الباكراب، عمدة الشر (مجدي عبدالله) انقلاب على عمدة الفاضلاب، بمعنى أنه ارتقى اجتماعياً بزوجة ثانية، وسقط سلطوياً بفقد عموديته.
· المشهد الأول، "يقدل" عمدة عشيرة الفاضلاب بحماره الريفاوي، يتقدمه حرسه الخاص على تُك تُك، هذا المشهد يثير حفيظة خصمة عمدة الشر، عمدة الباكراب، ليسخر منه قائلاً "فاكر نفسو عمدة نيويورك!؟" ويعتزم الانقلاب عليه، وقد فعل بعد اغتياله والمشيء في جنازته، في جريمة كاملة الأركان، تمكن من النجاة من الشبهة، والفرار من العدالة، ليشرب هو من نفس الكأس، لكن على أيدي أعوانه بتدبير من المركز "اُم القاسطون".
· بصورة أو أخرى، تكرر مشهد العمدة على ظهر حماره في آخر لقطة من آخر حلقة، حين تبارى، وسيط الرأسمالية، والجاسوس القاتل على متن لاندكروز آخر موديل مع بدوي دوباي (الوسيلة المراد) على ظهر بعير نشط وخبُاب، سيّر الشاعر البدوي الدخيل مدحوراً بعد خيبة مساعيه في الاستيلاء على أراضي الأهالي وخراب البلد، كما يسير طائر الزرزور أفعى سامة حاولت إلتهام صغاره زغب الحواصل في عشٍ واهن.
كلمات لحن المقدمة:
بلدا فد، موسوم وسم
فوق السماح مرسوم رسم
ما بتقسم ما بتقسم
ناساً تتقاسم حلال اللُقمة
والروح والاسم
رغم الفواجع والمواجع
تبتسم تبتسم
كيف تنقسم؟
في ظل تبلدية ونخل
تلقانا متلمين أهل
بالحكمة والرأي السمح
كل الخلافااااات تتحسم
· في ظل تبلدية ونخل، هذا التوصيف يغطي معظم السودان، وكان من الأفضل أن يجتهد المخرج في تصوير شجرة تبلدية أو إيجاد صورة حيّة ووارفة لها، بدلا عن الاستعانة بمجسم خشبي "جُدل" لا حراك فيها يبدو انه موضوع في متحف. هذا الكسل الفني من المخرج في ظل المشاهد المكثفة لأشجار النخيل قد يساء فهما، رغم اتساق النخيل مع الحيز المكاني لأحداث المسلسل. · وليس بعيدا من ذات النقطة، لو أنّ مؤلف القصة أبو بكر الشيخ اجتهد في إسقاط الحبكة الدرامية على أية بقعة غير شمال السودان لكان الصراع العشائري أكثر واقعية، إذ أنّ الإقليم الشمالي أقلّ حدة من حيث الحمية الاثنية، فمن الأفضل أن يكون مسرح الأحداث شرقا أو غربا، واضعين في الاعتبار تكلفة الإنتاج الدرامي قد يكون عائقا في اختيار المسرح المناسب. · من الأشياء الملفتة في أزياء، العمائم الطواقي الملونة لأبطال المسلسل، معظمهم يعتمرون ألوان داكنة بدلا من العمائم والطواقي البيضاء المعتادة، وبما انهم أس الخلافات المجتمعية، قد يكون المخرج قصد عكس سوداوية مواقفهم عبر الأزياء، سيما العمائم التي تغطي الرؤوس، والأدمغة الداكنة . · اظهر المسلسل دور فاعل لمنظمات المجتمع المدني في حل القضايا الاجتماعية من خلال النشاط المدروس لثلاثية زوجات العمدة الوريث فضيل. ومما كان ينشده الشاعر البدوي، أثناء سيرته للعميل الجاموس مندحرا من خطة الخراب:
بلد بتجمعنا والجهوية بتفرقنا
جمرة فرقتنا يا بلدنا بتحرقنا
· يعرض مسلسل 3 في حبل الاغتيالات بصورة مكثفة كأسلوب لتصفية الحسابات بين العشائر المتناحرة، لهذا السبب يبدو كان حضور أشعار الشاب البدوي (الوسيلة المراد) مكثفاً ينثر أشعار الحكمة، وينادي بالقيم الفضيلة والمفاخرة الموروثات الأصلية، والذي حرص المخرج تصويره في الغالب وهو يمتطي ظهر بعيره، وهذه الوضعية قد يعنى الحركة وعدم الاستقرار لمجتمعه، كما يشير جنوح شاعر المنطقة إلى الانعزالية للفرز بين الخيرية الشر، مثّل هذا الانطواء ملاذا للرشاد ومخزون للحكمة لا ينضب.
· رغم التشويق الدرامي، ليس هنالك نقطة تقاطع بين معاناة بدوي (عصام بُر) مع زوجته السلطوية نفيسة (حنان جوطة) وجوهر أحداث المسلسل، إلاّ مكتب هارون المأذون، لذا يعتبر هذه الجزئية من المشاهد، كنوع من البهارات والتوابل الضرورية.
· يسخر عمدة الباكراب من عمدة الفاضلاب ويهدده بالإنقلاب عليه، عندنا كانت العمودية موحدة تحت سلطة الأخير، إلاّ انه اغتاله شخصياً رمياً بالرصاص، مما يعني بالضرورة إنّ الانقلاب في لغة هؤلاء القوم يعني القتل، هذا يعني أن المسلسل "يتلكم سياسة"!
· كالعادة تفادت فرقة فضيل الكوميدية عرض الأطفال كمكون أساسي للأسرة المثالية، فقد ظهرت جميع الأسر التي تجاوزت العشر بدون أطفال، وهذا عدم واقعية، رغم مشاركتهم في المشهد الأخير كفئة عمرية أسندت إليها إزالة يافطات المقاطعة الاجتماعية بين العشائر المتناحرة.
· نجاة جميع من دبروا أو نفذوا الاغتيالات من العدالة، تعتبر رسالة سالبة تحسب على المسلسل.
· عادت الخضرة والفرح للبلد مع عودة المياه لمجاريها بين الفاضلاب والباكراب، وعودة الشُفع للعب مع بعضهم البعض، وعودة العزة لزوجها الأول بعد مقتل زوجها المتآمر، وعودتها للريف، كعودة السمك للماء.
· فشل قيادات المجتمع، وزعماء الإدارة الأهلية في دأب الصدع، وإصلاح النزاعات العشائرية، وإسناد تمزيق يافطات المقاطعة إلي الأطفال كخاتمة للعمل الدرامي، ترسل رسالة ياس من الجيل الحالي، جيل الآباء والتأويل علي جيل الأبناء لتجاوز الخلافات حول السلطة بدافع السيطرة. · اهتمامي العمدة بالشأن الانتخابي، فيه محاكاة وتقليد للريف المصري.
· سهولة جمع التبرعات لفك رهن الأراضي الزراعية فيها تقليل لقيمتها، وكان الأولي فنياً أظهار المشقة العنت في تحصيل هذه المبالغ، من خلال التبرع عبر الكشوفات والتحصيل المتأني، والاستعانة بأبناء المنطقة في الخارج، وليس الاكتفاء بتبرعات ناس العزاء بصورة فورية وغوائش النساء.
· يلاحظ استهداف ملحوظ من فتيات ونساء العاصمة لناس الريف كأزواج (عمدة الفاضلاب وفضيل ومليوة) مقابل زيجة واحدة فاشلة من بنات الريف إلى العاصمة، تعثرت وعادت من حيث أتت. هذا الخلاصة، متسقة من إنحياز فرقة فضيل الكوميدية إلى الريف. · التسلسل الدرامي يجّرم ناس الخرطوم في التآمر علي المنطقة، وتناحر مكوناتها ضد بعضها البعض وتهجير أبنائها، وتجفيف الحواشات، ووقف الحياة.
· الذهب ينقب من الأرض ويرجع إليها من خلال الزراعة، وفي نهاية المطاف تنتصر الزراعة علي الذهب، ويخيب الدهابة، وهذه هي رسالة موجبة
المشهد الأخير
بطل الرواية، العمدة فضيل في أصفي حالته المزاجية، وفي أحسن ما يكون هنداما، يلاحظ إعتماره عمّة بيضاء في هذا المشهد يطلب من زوجاته الثلاث الواقفات أمامه طلبا، بعد خطبة عصماء، وتكسير ثلج لهن على المستوى الفردي، يطلب وجبة "مدنكة" يشيل بيها حليه المنبت، كمكافأة لنفسه بعد الانفراج في عقدة الفاضلاب والباكراب، وهذا الطلب عاديا ومشروعا، ولم يطلب منهنّ تحضير لبن الطير، رغم ذلك يحبط في طلبه، يخيب أمله، كلٍ بعذرها، أظرف هذه الأعذار، اعتزام زوجته الرفيقة ازدهار قراءة مقطع من كتاب! خيبة أمل زوج ممكون في لحظة صفاء، في مشهد تآمري، وكيد نسوي منظم، لم ترعوي أي منهم إلاّ لما تعرّضن لتهديد جماعي بزوجة الرابعة .
· وبما أن زوجات العمدة (الخليفة) الثلاث من أعمار وطبقات ومستويات تعليمية مختلفة، واهتمامات متنوعة، يرسل المخرج رسائل اجتماعية مبطنة، مفادها أن تعدد الزوجات لن يحقق السعادة الزوجية، وأنّ التعدد ليس حلا.
شخصيات المسلسل · أبوبكر الشيخ أجاد دور العمدة الطيب، لكن يبدو انه جامل نفسه باعتباره صاحب الفكرة ومخرج المسلسل، اذ أنّ شخصيته لا تلائم العمودية من حيث البنية الجسمانية المفتقرة لمظاهر النعمة، فهو نحيف، والأنسب لأداء هذا الدور، الفنان الكبير موسى الأمير، أو أحمد البكري وهو ضمن محاور العقلانية في المسلسل. · الظهور الخاص، ودور الكمبارس المحدود للفنان الكبير علي مهدي يفضح نوايا المخرج الدعائية والترويجية للمسلسل، لذا يعتبر هذه المجاملة خصماً من المسلسل وليست إضافة لنجومية أبطاله. · رسّح الفنان الشاب إيهاب بلاش تخصصه في الأدوار القذرة، والحفاظ علي "إستايل" شخصية العميل ذو الضفيرة الرجالية (ذيل الحصان). · أجادت ازدهار دور الكنداكة الثورجية، والرفيقة المستنيرة التي تُعلي من قيمة القراءة وضرورة الاطلاع، لم تنسَ حث زوجها على قراءة فصل من كتاب قبل النوم، بيد أنها اظهرت الثورجية كزوجة جافة عاطفيا وصارمة over، ومكرضمة دائما، وأنّ أجندة العمل العام عندها مقدمة علي أجندة الأسرة، وهذه جوانب تبدو سالبة في حياة الكنداكات، كما يعكسها المسلسل، وفي هذا تجني وظلم لهن. بهذا الدور الصارم كأن ازدهار تحاول إرسال رسالة في بريد متابعي أدوارها الدرامية، مفادها أنّها قادرة علي تقديم أدوار مختلفة عن الغنج والتزلف الملحوظ دراميا لفضيل علي وجه الخصوص، إذ تفادت ألاّ تبتسم إلا نادرا خلال حلقات المسلسل. · قدّم عصام بُر دورا رائعا للزوج مملوك المرا (بدوي) وأظنه ازداد ثقةً في نفسه كممثل وليس كاتب نصوص درامية، ساهم بفاعلية في نجاح فرقة فضيل الكوميدية، حسب إفادات موثفة، اذ كانت مشاهد "كبكبته" من زوجته نفيسة، من اكثر المشاهد فكاهة في المسلسل. · هارون المأذون (سعيد نورالدين) قدّم دورا كبيرا، واستفاد من مقدرته علي الضحك من الأعماق في أن يكون محور اجتماعي، اكثر من مسهل زواج فكان اختياره موفقا. زوجة عمدة الفاضلاب الأولى (مها التوم)، تظهر مكياجها بصورة مبالغ فيه over ومتكلف، وكذلك التكلف كان مبالغا فيه في طريقة كلام الفنانة مها التوم زوجة العمدة الفاضلاب الثانية وابنتها نازك يوسف زوجة فضيل الثالثة، في أدوارهن كسيدات خرطوميات، كأنهن خواجيات وليست سودانيات، لا يعرفن ملاح التقليّة ويجهلن سجية أهل الريف.
· العمل الدرامي مفصل على البطل فضيل، وزوجاته الثلاث نجمات فرقته الكوميدية، فضيلة وازدهار، بالإضافة إلى الشابة نازك يوسف كزوجة ثالثة، لذا جاء الاسم (3 في حبل) أي حبل الزوجية، إلاّ أنّ هذا الاسم لا يعبر عن مضمون المسلسل، ولا يعكس معالجات للصراع الدائر بين مكوناته؛ والعنوان الأنسب من وجهة نظرنا (عمودية في فتيل) حيث تم عزل عمدة الباكراب عمدة الفاضلاب إثناء غيابة بمناسبة زواجه الثاني، يشكل مجلس تسيير للعمودية، يستميت الأخير في استعادة سلطاته، يتم اغتياله من قبل خصمه عمدة الباكراب إثناء محالته فض الاشتباك بين منسوبي العشيرتين، تتم المقاطعة الاجتماعية بين الطرفين، وتحدث تطليق متبادل للزوجات وتخرب بيوت، وتغلق دكاكين قبل أن يخلف بطل المسلسل فضيل العمدة القتيل، وينجح في احتواء الموقف كبطل مطلق، مستعيناً بزوجاته.
عمودية في فتيل
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 05/06/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
إبراهيم سليمان/ لندن
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست