قد يستغرب الكثيرون للبشائع والمجازر التي إرتكبها الجيش السوداني خلال الستة عقود الماضية والتي أوردنا بعضها في المقال السابق (5 – 10) من هذه السلسلة، ولكن تظل الحقائق كما هي رغب الجيش وموالوه أم أبو. وهنا أيضا لا بد من توجيه صوت شكر لكل من راسل وساهم بمعلومات مفيدة جدا أقامت صلب هذه المادة، ونؤكد أن بعض من تلك المعلومات سيتم عرضها في مقال اليوم والذي نحاول خلاله إزاحة كل ما يؤدى إلى الإستغراب، لأن ما ذكر من جرائم في هذه المساحة المحدودة لا يصل ما نسبته ١٪ من حجم جرائم الجيش السوداني ضد نفسه ومنسوبيه بالدرجة الأولى ناهيك عن مواطنين يعتقدهم أعداء له كما خط قلم النقيب جيش سرالختم صلاح السالمابي بتاريخ ١٣ يناير ٢٠٢٢م وكأنه على علم بمقتل العميد شرطة الذي أعلن عنه بعد ساعات من نشر مقاله في صحيفة القوات المسلحة صبيحة ذات اليوم. هذه البشاعات والمذابح ضد المواطنين من قبل الجيش تتطلب إعادة النظر في أصل وطبيعة الجيش السوداني وعقيدته ومهنيته وبعض من ممارساته لأنه لا يمكن لإنسان سوي أن يتوقع ويتقبل أن جنديا أو ضابطا في أي مؤسسة كانت يمكنه أن يستهدف مواطن بلده الأعزل ويتوعده كما لو أنه يتعامل مع جيش مسلح. وبإلقاء نظرة على بعض جوانب الجيش السوداني يمكننا أن نخلص إلى نقاط موضوعية يمكنها أن تشرح هذا السلوك الإجرامي وغير المهني للجيش. منها على سبيل المثال: أصل وعقيدة الجيش السوداني عقيدة الجيش السوداني التي تظهر أنها مناوئة ومعارضة لطبيعة المكون السوداني عموما - حيث العنصرية والتعدي على المواطنين وقتلهم ونهبهم وإساءتهم والتقليل من شأنهم - تعود إلى عقيدة نواة الجيش السوداني الأولى الإستعمارية التي إنبت لأجل حماية سلطة إستعمارية ومصالحها في وقت فيه لم تتضح بعد مساحة ومكونات الدولة التي يمكن للإنجليز ومن معهم رسمها في سودان ما بعد المهدية مع وجود جيوب من المقاومة حينها لا تزال ممتدة من جنوب-غرب القضارف حيث مقر الأمير يعقوب محمد تورشين "شقيق الخليفة" القائد العام لجيش دولة المهدية والعضو الثاني لمجلس سيادتها، إضافة إلى جيوب المقاومة في كل من سنار والجزيرة والنيل الأبيض وكردفان ودارفور بعد سقوط الخرطوم وقتل زعيمها عام ١٨٩٨م. وفيما يؤرخ البعض بأن أصل الجيش يعود إلى قوة دفاع السودان التي تم إنشاءها بواسطة المستعمر في الربع الأول من القرن الماضي، إلا أن أصل الجيش السوداني يرجع إلى المكون السوداني للجيش الإستعماري "الإنجليزي – المصري – السوداني" الذي عمل على هدم أول حكومة سودانية للسودان المعاصر بقيادة السيد عبدالله محمد تورشين "المؤرخ له في سطور معدودة من التاريخ المدرسي باسم عبدالله التعايشي"، حين شنت قوة إستعمارية مثل الطرف السوداني أصلها في الفترة من ١٨٩٦م – ١٩٠٩م، حيث تم القضاء على آخر جيوب المهدية بالنيل الأبيض بقيادة ود الصليحابي في العام ١٩٠٨م في منطقة الجبلين، تلاه الإستيلاء على القيادة العسكرية الأولى للمهدية في منطقة كبكابية بقيادة الفكي سنين في العام التالي (١٩٠٩م) بالتعاون مع السلطان علي دينار. وبعد الإنقلاب الإستعمار على السلطان على دينار بسبب تحالفه ضد المعسكر البريطاني في الحرب العالمية الأولي وقصف مدينة الفاشر بالطيران الحربي البريطاني - تزامنا مع القصف الجوي ضد إثيوبيا الإيطالية - ومن ثم ملاحقة علي دينار و قتله في منطقة فورقو بوادي صالح في ١٦/١١/١٩١٦م فيما يعرف بجردة دارفور حيث كان من بين القيادات العسكرية ضمن جيش المستعمر السيد علي الميرغني والد زعيم الطائفة الميرغنية محمد عثمان الميرغني والذي أيضا كان من ضمن قادة الهجوم الأول على الخرطوم "جردة الخرطوم" بداية الحملة الإستعمارية من بين آخرين. بعد ذلك وفد سوداني تألف من قيادات قبلية وزعامات دينية طائفية وبعض المتعلمين من بينهم السيد إسماعيل الأزهري - أول رئيس وزراء محلي بعد الإدارة الإنجليزية المصرية - إلى لندن لمباركة إنتصارات المستعمر في الحرب وتأكيد الولاء له، وهي ذات المجموعة التي سيطرة لاحقا على إدارة ورسم السياسات العامة في دولة ما بعد الإنجليز بينها السيطرة على الجيش السوداني. لذا يتضح أن الجيش السوداني ترسخت عقيدته لحماية السلطة وأسيادها أكثر من كونها قامت على حماية دولة مُعرّفة الحدود الجغرافية والمكونات المجتمعية والقانون الذي ينظم علاقاتها. وفي هذه النشأة المشوهة يتساوى الجيش السوداني والقوى السياسية التي تأسست هي الأخرى قبل تحديد معالم دولة ما بعد المهدية المهدومة من قبلهم، وهو ما ينعكس في حالة التوهان السياسي التي تعانيه القوى السياسية بسبب تبنيها لمشروعات سياسية وافدة بالدرجة الأولى، حيث تجد أن بعضها يتبنى المشروع العروبي القومي كما في حزب البعث، والمشروع الإسلامي كما في التيارات الإسلامية المعروفة بجانب الشيوعية بجانب شعارات عمومية يتم رفعها بواسطة آخرين أملا في تطبيقها في دولة غائبة المعالم ومعدومة الركائز ومجتمعات تعددت الثقافات والأعراق والأديان والأنشطة الإقتصادية. ولو أن تأسيس الجيش السوداني كان قد إنبنى على ذات الدولة القديمة – المسمى بالمهدية - على أقل تقدير بحدودها ومكوناتها المجتمعية بعد تنظيم علاقاتها، لكانت عقيدته مختلفة تماما عما هي عليه الآن، لأن عقيدة حماية الدولة والمجتمع وحفظ النظام العام، تختلف جوهرا وظاهرا عن عقيدة تقسيم المجتمع وإستعماره ومحاربته وإفقاره ونهب الممتلكات العامة والخاصة بجانب حماية سلطة ضيقة ومصالحها فضلا عن الولاءات والتبعية الخارجية كما يحدث بواسطة الجيش الحالي. قلة مسيطرة على الجيش قد لا يخفى على أحد أن الجيش السوداني عبارة عن جسم غير متجانس البتة، فتجد أن المواقع القيادية بالجيش تسيطر عليها مجموعة صغيرة جدا من السودانيين، بدءا من الجنرال عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد الأعلى للجيش، الجنرال محمد عثمان الحسين رئيس الأركان المشتركة والقائد العام للجيش، الفريق خالد عابدين نائب رئيس الأركان عمليات، الفريق عبدالله البشير نائب رئيس الأركان تدريب، الفريق صلاح أحمد كرار للإدارة، الفريق أحمد نائب رئيس الأركان للتوجيه، ثم قيادة وحدات المهندسين والمدرعات والإسخبارات العسكرية وكلية القادة والأركان كما أن معظم قادة الفرق العسكرية بالولايات ومدراء ورؤساء شركات وإستثمارات الجيش جميعهم ينحدرون من ذات المجموعة، فيما ينحدر الجنود الذين هم مجرد شغيلة ومحاربين من مجموع السودان الآخر. ويعود هذا الإختلال إلى مطلع العشرينات من القرن الماضي، وبعد القضاء على بقايا الحكومة الوطنية، لجأ الإستعمار إلى تكوين قوة عسكرية - عرفت بقوات دفاع السودان - لحماية مصالحه في المناطق البعيدة حيث عمل على تجنيد بعض أبناء الأقاليم البعيدة من بينهم القائد عبدالفضيل الماظ (جبال النوبة) الذي قاد المقاومة المسلحة ضد القوات الإستعمارية في الخرطوم مع قائد جمعية اللواء الأبيض علي عبداللطيف عام ١٩٢٣م. بعد مقاومة الماظ وعبداللطيف، تأكد للإنجليز أنه لا يمكن الوثوق في السودانيين الذين ينحدرون من مناطق جغرافية لا تكن عداء للمهدية أو بالأحرى هم أصل المهدية. فلجأوا إلى إعادة النظر في كيفية إدارة المناطق البعيدة من خلال سودانيون موالون للإستعمار بشكل مطلق ويكنون عداء سافر للمهدية عن طريق إبقاء كافة المناصب القيادية بالجيش (الضباط) للموالين فيما يتم إبقاء الآخرين في مستوى الجندية والرتب الأدنى والحرص على إنهاء خدمتهم في وقت مبكر دون بلوغهم مستوى الضابطية هذا بجانب عدم قبولهم في المدرسة الحربية التي هي الكلية الحربية السودانية اليوم. وإستمر هذا الأمر إلى اليوم، وهو ما ظل يجعل نسبة قبول الآخرين في الأكاديمية العسكرية في السودان متدنية جدا مقابل قبول بعض المجموعات التي تنحدر من مجموع ثلاثة قبائل من مناطق شمال الخرطوم وذلك ما كشفته الوثائق التي أوردها الصحفي والكاتب الكبير الأستاذ فتحي الضوء في كتابه (الطاعون)، حيث يظهر أن معظم القيادات العليا للجيش تنحدر من قبائل الجعلية والشايقية والدناقلة. هذا وتظهر معلومات متداولة في الإعلام هذه الأيام أن عدد ضباط الجيش الحالي حوالي١٤٠٠٠ ضابط (١٤ الف) بينهم ١٢٥٠٠ من نفس المجموعة مقابل ١٥٠٠ ضابط لبقية أنحاء السودان. وذات الأمر ينطبق على جهاز الأمن والشرطة، كما أن الفريق شرطة عنان حامد عثمان مدير الشرطة السودانية الحالي هو من قرية (قندتو) بولاية نهر النيل والتي هي قرية ومسقط رأس عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة - هذا إن لم تربطهم صلة قرابة. القبول للكلية الحربية والتمثيل في البعثات المختلفة نهج الولاءات الإستعماري في بنية الجيش تحول فيما بعد إلى مأثرة للتكسب والتوظيف، بأن أن أصبح الجيش مكانا للتباهي والسلطة والجاه. وقد أضحت بنية الجيش الإستعمارية الأولى هي النهج في عملية قبول الطلاب للأكاديمية العسكرية اليوم بحيث أنه يتم قبول ما يتراوح نسبته من ٨٥٪ - ٩٠٪ من نفس المجموعة أعلاه ثم يتم إلحاق آخرين بهم لإعطاء صفة القومية التي هي أصل هتاف كل المدافعين عما يعرف بالقوات المسلحة، وخصوصا القوى السياسية القديمة والمنتفعين من السلطة بشكل مباشر. لأن عملية التقديم والقبول في الكلية الحربية ظلت عملية سرية كامل – سري للغاية - إلى حد قريب، حيث يتم توزيع إستمارات القبول إلى أسر ومجموعات معينة. والأغرب في هذه المسألة هو ما كشفته عملية الحوسبة للمؤسسة العسكرية في العام ١٩٩٨م التي أظهرت أن هناك نسبة عالية جدا من بين منسوبي الكلية الحربية لم يحرزوا درجة النجاح في الشهادة الثانوية بينما لم يعرف بعد الكيفية التي تم قبولهم بها، وهم ذات الضباط الذين يدعون الوصاية على السودان والسودانيين اليوم. أيضا، كشفت بعض السجلات أن البعثات العسكرية سواء أكانت في الملحقيات العسكرية أو المنح الدراسية أو التدريبية يستأثر بها قلة داخل الجيش السوداني وهي ذات الأوجه التي تصل مراتب عليا في الجيش – من ذات المجموعة – بينما يتم التخلص من الآخرين في مراحل مبكرة هذا إن لم تحصدهم آلة الحرب. فمثلا تجد أن أكثر من ٩٧٪ - ٩٨٪ من ممثلو المحلقيات العسكرية هم من أبناء منطقة واحدة، عدا حالات بسيطة كما في حالة الجنرال إبراهيم جابر كريمة عضو مجلس السيادة الحالي الذي قضى حوالي ١٢ سنة في ماليزيا مبعوثا للتصنيع الحربي فيها وكل من أندونيسيا والصين وغيرها وهو بدوره عمل على توظيف بعض أقرباءه ضمن برنامج عمله. وما حدث في الفاشر إبان إرسال وفد الحكومة المراقب لوقف إطلاق النار ضمن بعثة الأمم المتحدة كان مخجلا حتى لمنسوبي قوى المقاومة ناهيك عن البعثة الإفريقية، حيث أرسلت الحكومة السودانية ضباط معظمهم زار دارفور لأول مرة في يونيو ٢٠٠٤م وأغلبهم من منطقة واحدة في السودان، ما عدا ضابط واحد وهو المقدم صلاح حسن مهدي "كردفان" قائد ثاني الهجانة بالأبيض. التمليش وبما أن الجيش مختلا إجتماعيا فكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الإختلال على كل أنشطته وعملياته وعقيدته. ومع أن التمليش أمر متاح في العمل العسكري في إطار ما يعرف بالتمرد المضاد "كاونتر إنسيرجنسي"، إلا أنه يلاحظ أن الجيش السوداني ظل طوال تاريخه يعمل على تقسيم المجتمعات من خلال تمليشه لمواطنين سودانيين ضد مواطنين سودانيين على إختلافهم الطبيعي وليس ضد من يحاربهم من قوات المقاومة المسلحة، وإعتبار بعض المجتمعات على أنها مجتمعات أو قبائل عدوة لكون قادة المقاومة المسلحة ينحدرون من تلك المجتمعات. وفي الصراع القائم في السودان عمل الجيش على حشد بعض المجتمعات ذات الأصول القبائل العربية – حتى من دول أخرى - ليس للحرب في صفه ضد قوى المقاومة في كل من جبهة أنجيانيا ٢،١ منذ منتصف الخمسينات .. و كذلك الجيش الشعبي لتحرير السودان و حركة تحرير السودان و حركة العدل والمساواة ..الخ، و إنما لمحاربة المجتمعات التي ينحدر منها قادة قوى المقاومة أو المجتمعات الحليفة لها في كل من جنوب السودان و كردفان و النيل الأزرق و دارفور لأكثر من ستة عقود وبالتالي حرق معظم القرى وقتل الأبرياء وسرقة المواشي و الممتلكات وتدمير ما تبقى منها وسلب أراضيهم على إمتداد السودان وتغيير أسماءها وإستيطانها خلال عمليات إستمرت لعقود لتكون المحصلة إنقسام مجتمعي حاد يحتاج إلى جهود مضنية لتجاوزه في المستقبل. وهي ذات السياسة التي إتبعتها كل الحكومات تجاه المكونات التي إرتبطت تاريخيا بالمهدية وهو ما يظهر في محاولات طمس معالم أم درمان القديمة وتغيير أسماء أحياءها المعروفة وما حادثة الجزيرة أبا ومجازر ودنوباوي في مطلع السبعينات خير شاهد. مهنية الجيش السوداني ما يحدث الآن أمام الجميع وما توثقه كاميرات العالم قبل كاميرات الثوار والسودانيين بصورة عامة مقابل الكذب العلني لقادة الجيش في محاولة لإنكار ما توثقه التكنولوجيا ووسائل الإعلام مباشرة، وهواتف الشباب - وبعض أفراد الجيش أنفسهم - من جرائم يرتكبها الجيش السوداني ضد الشباب الأعزل في الخرطوم منذ مذبحة إعتصام القيادة العامة في ٣ يونيو ٢٠١٩م إلى اليوم قد يلخّص علاقة الجيش السوداني بمفهوم المهنية. الحديث عن مهنية أي عمل يعني إحتراف المهنة والتحلي بأخلاقها والإلتزام بقواعدها وإتباع وتطبيق قوانينها في كل الظروف أو بالأحرى مهما تطرفت الظروف. والجيش أو العسكرية كأي عمل آخر له أخلاقه وضوابطه وقوانينه - قوانين المؤسسة العسكرية – التي تُكسب الجندي أو القائد العسكري إحترامه لما يقدمه من خدمة كبيرة قد تؤدي بحياته كما تعطي المؤسسة التي ينتمي إليها الهيبة والسمعة الطيبة. ومن أبرز أخلاقيات العمل العسكري الإنضباط والإلتزام بالقانون وعدم التعدي على المدنيين أو إستهدافهم أو تعريض حياتهم للخطر أو نهب ممتلكاتهم أو قتل الأسرى أو إساءة معاملتهم. وفي حالة السودان يمكن أن تنطيق هذه المعايير على جيوش غير حكومية كما في قوى المقاومة المسلحة التي ظلت تطلق مرارا أعدادا كبيرة من الأسرى طوال الحرب السوداني حيث أطلقت الحركة الشعبية لتحرير السودان عددا كبيرا من الأسرى في العام ١٩٩٨م، وكذلك الحركة الشعبية شمال / الجبهة الثورية التي أطلقت سراح ما يزيد عن الـ ٢٠٠ فرد من أسرى الجيش و الأمن السوداني والدفاع الشعبي أوائل مارس ٢٠١٧م تم تسليمهم إلى الخرطوم بواسطة الصليب الأحمر الدولي في العاصمة اليوغندية، في عملية أسمتها الحركة الشعبية بحسن النوايا وتخليدا لأحد قادتها وهو العميد أحمد بحر هجانة الذي تمت تصفيته في كادوقلي من قبل القوات السودانية إبان أحداث كادوقلي ٢٠١١م، بينما لم يسجل تاريخ الجيش السوداني أي عملية إطلاق أسرى للمقاومة المسلحة طوال الحرب السودانية، ما يظهر أن الجيش السوداني يعمل بقاعدة "ما تجيبو حي" التي أعلنها أحمد هارون حاكم جنوب كردفان السابق والمطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية وجرائم تطهير عرقي في دارفور. الإنقلابات العسكرية أي إنقلاب عسكري هو بالضرورة على قسم الولاء للمؤسسة العسكرية التي إليها أي إنقلابيون على مر العصور. وإذا كانت المهنية تعني الإلتزام بأخلاق وقوانين أي مؤسسة وتوجهاتها، فإن الإنقلابات المتكررة من قبل الجيش السوداني والتدخل في السياسة وأمر الحكم بصورة مستمرة، دون القيام بأي بالمهام الرئيسية في حماية الحدود كما في مثلث أليمي في الجنوب الشرقي (الحدود الكينينة الإثيوبية) الذي تنازلت عنه حكومة نميري في ١٩٧٤م، ومثلث حلايب منتصف التسعينات، وإدارة داركوبرا في الحدود التشادية وغيرها، لذا فإن الإنقلابات التي نفذها الجيش السوداني تعتبر إنقلاب على المؤسسة العسكرية وقوانينها وقواعدها قبل أن تكون إنقلاب على السلطة بغض النظر عن طبيعة السلطة المعنية. وقد جاءت إنقلابات الجيش السوداني في وقت مبكر عقب إنتقال إدارة السلطة من المستعمر الإنجليزي إلى القوى المحلية كما في إنقلاب ضباط الجيش وطلاب الكلية الحربية يونيو١٩٥٧م بقيادة إسماعيل كبيدة، إنقلاب الفريق إبراهيم عبود في ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م، إنقلاب ٢٥ مايو ١٩٦٩م بقيادة العقيد جعفر محمد نميري، إنقلاب ١٩ يوليو ١٩٧١م المعروف بإنقلاب هاشم العطا، إنقلاب حسن حسين في سبتمبر ١٩٧٥م، إنقلاب محمد نور سعد في يوليو ١٩٧٦م، إنقلاب سوارالدهب ١٩٨٥م وتسلمه السلطة بدلا من تسليم السلطة لحكومة مدنية إنتقالية، إنقلاب البشير في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، إنقلاب رمضان ١٩٩٠م بقيادة اللواء عبدالقادر الكدرو واللواء محمد عثمان، إنقلاب العقيد أحمد خالد ١٩٩٢م المنسوب للبعث فيما تم وضع الإنقلابيين في السجن على خلاف عرف الإعدام السائد في معظم الحالات، إنقلاب البشير الثاني ١٩٩٩م – ٢٠٠٠م، إنقلاب ١١ أبريل ٢٠١٩م للفريق عوض بن عوف، إنقلاب البرهان الأول ١٢ أبريل ٢٠١٩م، إنقلاب يوليو ٢٠١٩م بقيادج الفريق هاشم عبدالمطلب، إنقلاب سبتمبر ٢٠٢١م بقيادة اللواء مصطفى بكراوي، إنقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م الحالي بقيادة الفريق عبدالفتاح عبدالرحمن البرهان للمرة الثانية. وبإلقاء نظرة عامة على هذه الإنقلابات - هذا غير المحاولات الأخرى التي يتم إخمادها قبل ظهورها إلى العلن - نجد أن الجيش السوداني طوال مسيرة وجوده خارج نطاق المستعمر الإنجليزي، قد أجرى أكثر من ١٥ محاولة إنقلابية – أي بمعدل إنقلاب عسكري كل أربعة سنوات، نجحت بعضها في السيطرة على السلطة لأكثر من خمسين عاما إرتكب خلالها أبشع الجرائم - كما أشرنا سابقا - وإنتهت جميعها إلى أزمات إقتصادية قادت إلى المزيد من الإضطراب والتدهور فضلا عن إعاقة قيام دولة مستقرة في السودان. الجيش وإقتصاد الحرب في بادئ الأمر قد يبدو الحديث عن اقتصاد الحرب لدى الجيش على أنه سيطرة الجيش على موارد البلاد من خلال إمبراطورية الاقتصاد العسكري التي أسس لها الجيش من خلال الشركات غير المحدودة إصطبغ بعضها بألوان مدنية أولها مدينة جياد وشركات الدهب والبترول والإستيراد والتصدير كما كشف ترس الشمال عن حجم الموارد التي يتم نهبها عبر شركات الجيش بينها اللحوم و المواشي الحية والسمسم والصمغ والفحم حيث تنشط في ذلك شركات الجيش والأمن على رأسها منظومة الصناعات الدفاعية – والتي قال عنها رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك أن شركات القطاع الأمني تسيطر على ٨٢٪ من الاقتصاد. ولكن بالحديث عن إقتصاد الحرب للجيش السوداني نعني حرفيا إقتصاد الحرب الذي ينتفع خلاله بعض منسوبي الجيش "الضباط" من خلال الحرص على إستمرار الحرب وإستغلال ذلك لتحقيق مكاسب عبر احتكار للعمليات التجارية والنقل في مناطق الحرب، والتحكم في كل الأنشطة الحياتية و الاقتصادية للناس وإعطاء مشروعية لكل ما يمكن أن يدر بدخول للجيش من الصيد الجائر للحيوانات للحصول على لحومها وعاجها وجلودها وصغارها كما أن معظم كميات الحشيش تأتي من المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوداني – حيث لا يخفى على القارئ العديد من الصور التي يتم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي والتي تظهر أفراد الجيش وهم يعالجون الحشيش إما لإستخدامه أو بيعه بصورة يومية. أيضا، غياب الشفافية – تحت مسألة الأمن القومي – في هذه المؤسسة يجعل من عمليات التسويق الحربي لكل متعلقات الجيش أمر قابل للفساد غير المحدود وخصوصا مع حالة العقوبات الاقتصادية طوال العقدين الماضيين حيث يتم تهريب الموارد السودانية بذات القدر الظاهر في (ترس الشمال) مقابل إستيراد مسلتزمات عسكرية دون معرفة كمية أو حجم التداول في هذه الحالات ما يبرهن على القول بأن المؤسسة العسكرية السودانية والمؤسسات الأخرى هي وكر الفساد الحقيقي. وهو ما يتجلى في أن معظم الضباط يستحوذون على عقارات وممتلكات غير محدودة رغم أن رواتبهم وعلاواتهم معا لا يمكن أن تكفي لسد أسرهم الشهرية. أيضا بعض الملفات التي إطلعت عليها لجنة تفكيك النظام السابق وإزالة التمكين وإسترداد الأموال المنهوبة كانت قد كشفت بوضوح تورط عبدالفتاح البرهان نفسه في عمليات تهريب المعادن وجلب النقود المزورة والمخدرات عبر طائرات تم توقيفها من قبل اللجنة ليتم إطلاق سراحها عبر البرهان شخصيا. المساءلة القانونية في الجيش ومع أن المساءلة في جوهرها مسألة كبيرة خصوصا في مؤسسة مثل الجيش، إلا أن أحدث مساءلة قانونية للجيش السوداني عبر القضاء العسكري هي التي لا يزال المعنيين بها قيد الحبس العسكري وعددهم حوالي ١٣٧ من منسوبي الجيش بعد هزيمتهم من قبل المسلحين الإثيوبيين في جبل أبوطيور بمنطقة الفشقة في أواسط ديسمبر ٢٠٢٠م، حيث أمُرت المجموعة بشن الحرب في ذات التاريخ بواسطة قيادات عسكرية دون علم الحكومة الإنتقالية ومؤسساتها التي يفترض أن تكون المسئول الأول في مثل هذه الحالات كما يظهر أن الحدث كان له علاقة بإلغاء زيارة رئيس الوزراء الإنتقالي عبدالله حمدوك وقتها إلى إثيوبيا. ومن خلال مراجعة هزائم الجيش السوداني المتلاحقة من قبل المقاومة السودانية سواء أكان ذلك في جنوب السودان أو جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، يتضح أن كل هزيمة أو إنسحاب للجيش تلتها عمليات إعتقالات واسعة وسط الجيش ومحاكمة بعضهم بتهم التمرد أو الانسحاب بدون تعليمات رغم بيان كل الأدلة بما ذلك سقوط المناطق والإستيلاء الكامل على عتاد الجيش وربما موت قاداته في أحايين وإجلاء بعض قيادات الجيش العليا من ميدان المعركة حال تأكدت الهزيمة وترك الجنود للموت. في حادثة الفشقة الأخيرة (أواسط ديسمبر ٢٠٢٠م) أعطيت التعليمات للجيش للتقدم نحو جبل أبوطيور، وبعد وصول المنطقة وطرد الموجودين فيه، سرعان من عاود الطرف الآخر تنظيم نفسه وحسم الجيش السوداني في قوته الأساسية وقوة الدعم التي باتت في المنطقة بعد تراجع الأولى مسافة كيلومتر واحد. الغريب في الأمر أن الشاكي هو أحد قيادات الدفاع الشعبي من نهر النيل والذي يتهم الكتيبة المهزومة - بعد قتل أكثر من نصف أفرادها - بالإنسحاب من المنطقة وأنها لم تهزم أبدا. يلاحظ في هذه الحالة وغيرها كما في حادثة دونكي دريسة بجنوب دارفور ٢٠٠٦م حيث أعتقل معظم ضباط الصف ليتحملوا المسئولية عن سقوط المنطقة – تحت مسمى الانسحاب - فيما تم نقل الضابط الأول وقائد الحامية إلى الخرطوم. وقد كانت الحجة الرئيسية لضباط الصف السجناء هي ضرورة إحضار قائد المنطقة الذي لم يُسئل أبدا. ووفاء للمصادر العسكرية بعدم ذكر بعض التفاصيل التي ربما تعرضهم للخطر، إلا أن كل الوثائق الخاصة بالمحاكمات العسكرية تشير إلى أنه يتم فقط مسائلة ومحاكمة ضباط الصف في معظم الحالات دون الضابط الكبار إلا في حال كان الضباط من نسبة (تطعيم-الجيش)، وهو أمر لا يحتاج إلى تفسير أبدا، لأن معظم قادة الجيش في أغلبهم ينحدرون من منطقة ومن أسر محدودة تحمي نفسها وأقرباءها وأبناءها في كافة مستويات ومجالات الجيش بما فيها الإدارية، فيما ظل يعاني العديد من أفراد هذا الجيش من الحصول على الأوراق الثبوتية بعد إنتهاء الخدمة في أحايين كثيرة وهو ما يحرمهم حقهم المعاشي بعد إنتهاء خدمتهم بسلام. هذا الإختلال البائن في جوهر عقيدة وبنية الجيش السوداني، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الجيش السوداني ليس فقط بحاجة إلى إعادة هيكلة – كما تنادي بعض القوى وسط رفض أخرى، ولكن يجب أن يكون موضوع إعادة بناء جيش سوداني وطني مهني ضمن مجموع القضايا الإستراتيجية التي يجب مداولتها في أي لحظة قرر فيها السودانيون بناء الدولة مستقرة في السودان، لأن بناء الجيش يجب أن يكون من بناء الدولة وليس العكس، والأصل في الجيش والسلطة معا هي الدولة وليس العكس، وهذا بالطبع ينسحب على العديد من المؤسسات القائمة بينها قوى سياسية ساهمت هي الأخرى في تعزيز الإختلال القائم وبالتالي حالة شبح الإنهيار التي تواجه سودان اليوم.
يتواصل ..
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 01/30/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة