المؤرخ ضرار صالح ضرار من كتاب تاريخ السودان الحديث الإمام المهدي يتقدم الى الخرطوم: بعد، أن حرر الإمام المهدي كردفان ودارفور، وبينما تحركت الحملة الإنجليزية لإنقاذ غردون من حلفا تحرك الإمام المهدي من معسكره في بلدة الرهد في 22 أغسطس 1884م، وسار حتي عسكر في أبي سعد بالقرب من أم درمان بعد مسيرة شهرين، وأصبحت الخرطوم مطوقة تطويقاً كاملا كما بدأت المؤن والغذاءات تتلاشي، وإستمرت المكاتبات بين الإمام المهدي وغردون إذ طلب الإمام المهدي من غردون مراراً أن يحقن الدماء ويسلم الخرطوم، وقال له غردون بأن الحكومة البريطانية على إستعداد لأن تفديه وحده بعشرين ألف جنيه فكتب له الإمام المهدي: (وقد بلغني في جوابك الذي أرسلته الينا أنك قلت أن الانجليز يريدون أن يفدوك وحدك بعشرين ألف جنيه، ونحن نعلم أن الناس يتقولون من البطال كلاماً كثيراً ليس فينا وذلك لصدور من أراد الله شقاوته ولا يعلم نفيه الا من إجتمع بنا، وأنت أن قبلت نصحنا فبها ونعمت، وإلا أن أردت أن تجتمع على الإنجليز فبدون )خمسة فضة( )1( نرسلك اليهم والسلام. )1( أي قرشين.) وتضايق غردون من رسائل الإمام المهدي فطلب منه ألا يكتب اليه مرة ثانية، ولما إشتد الضيق بسكان الخرطوم أخرج غردون بضعة آلاف وطلب من الإمام المهدي أن يؤويهم ويطعمهم فاستقبلهم الإمام المهدي أكرم إستقبال، وكانت المناوشات دائرة بين الفريقين وفي كل مرة يخسر غردون عدداً من رجاله وضباطه، وبالرغم من سوء حالته الا انه كان يؤمل في وصول حملة الانقاذ الى الخرطوم قبل سقوطها في يد الإمام المهدي. ولكن لما علم الإمام المهدي بتقدم الانجليز الى المتمة عقد إجتماعاً بين كبار قادته فقرروا الهجوم على الخرطوم وتحريرها قبل وصول الجيش البريطاني، ولذلك فإنه في 26 يناير 1885م، أمر الإمام المهدي الأمير عبدالرحمن النجومي بالهجوم العام على العاصمة، وإستبسل كل من الفريقين في القتال ولكن رجحت كفة الإمام المهدي وقضي أنصاره على كل من قاتلهم في الخرطوم، ووصل بعض رجاله الى السراي يتقدمهم رجلان من أبناء قبائل البجا فهجما على غردون الذي كان يحمل مسدساً فقتلاه، وفي الضحي أصدر الإمام المهدي أمره بالكف عن القتال حقناً للدماء ولكن القتال لم يتوقف إلا بعد أن وصل الأمر لكل المجاهدين المتفرقين في المدينة. بلغت أنباء مقتل غردون الإمام المهدي فلم يكن راضياً كل الرضى إذ كان يريد أن يحقن دمه كما فعل بغيره من الأوروبيين، كان الإمام المهدي يعتقد أن غردون يتمتع بسمعة طيبة لميله للعدالة كما أنه صرح لغردون بأنه على إستعداد لأن يتركه يلحق بالجيش الإنجليزي دون فدية ولكن الثورة والحماس لم تترك للمقاتلين تفكيراً كهذا. ويقال إن الإمام المهدي كان يريد أن يفتدي أحمد عرابي بغردون. نتائج تحرير الخرطوم: بتحرير الخرطوم جدت عدة مسائل ونتائج، فقد كانت المدينة تعج بالقتلى من الطرفين وعمها كثير من الدمار والتخريب وذلك بسبب عناد غردون وإصراره على المقاومة حتى تصل حملة الانقاذ، ومما لا شك فيه أن الأمل الذي ساور غردون وحامية الخرطوم كان السبب الأول في استنزاف كثير من الدماء كان يمكن أن تحقن بما في ذلك دماء غردون، ثم أنه لو قدر للجيش البريطاني أن ينتصر بعد ذلك ويستولي على الخرطوم لأنقذهم جميعاً وهم أحياء ولما سفكت تلك الدماء من الجانبين. وعرف الإمام المهدي أن سقوط الخرطوم لم تكن الغاية التي ينشدها لأنه أصبح الآن يواجه هجوماً بريطانياً قوياً وجيشاً لأقوى دولة غربية بأحدث أسلحتها، وكان عليه أن يحتاط للأمر ويعمل على طرد الغزاة من أرض السودان أولاً ثم وادي النيل بأكمله، لذلك فانه أرسل قائده الأمير عبد الرحمن النجومي فاتح الخرطوم لتعقب طلائع الحملة الانجليزية ومحاربتها حتى تخلى البلاد، أما البواخر التي وصلت الى الخرطوم فقد إستدارت شمالاً وهي تطلب النجاة يتعقبها قليل من السودانيين يرمون جنودها بالرصاص، وفي الطريق تحطمت باخرتان وتعطلت ثالثة ثم أصلحها بحارتها وفروا بها بعيداً عن الخرطوم حتى لحقوا ببقية جيش الصحراء، وفي هذا الوقت بدأ النجومي يتعقب البريطانيين الذين كانت حالتهم قد صارت أسوأ مما بلغه جيش نابليون حين عاد من موسكو، فقد كتب قائدهم الانجليزي بولر لرؤسائه بأن جمال جيش الصحراء قد نفقت، وأن أقدام رجاله حفيت، وجلودهم بليت، وأنه لا قبل له بجيش الأنصار، ثم أخذ يسرع في الهرب شمالاً، ولم يكن كل شمال السودان في أيدي الإمام المهدي آنذاك ولذلك فقد إستطاع جزء من الجيش البريطاني الزحف على أبي حمد ولم تقابله الا مناوشات أشدها معركة كربكان )10 فبراير 1885( وقتل فيها الجنرال البريطاني أيرل، وإنسحبت طلائع الثوار السودانيين جنوباً الى بربر فطلب القائد الأعلى اللورد ولسلي من قواده الهجوم على بربر ولكنهم أبلغوه إستحالة ذلك الهجوم من النواحي العسكرية إذ أن الإمام المهدي بدأ يرسل الرجال لتك المنطقة فقرر ولسلي الانسحاب الى كورتي حيث وصلت كل القوات اليها في مارس 1885، وبعث ولسلي لحكومته يبين لها إخفاقه في القضاء على الإمام المهدي بما لديه من جنود لأن كل السودانيين أصبحوا ينظرون الى الإمام المهدي على أنه قديس وانه قاهر للدول، كما أفاض في وصف نفوذ الإمام المهدي وضعف الجيش الانجليزي الذي ليس له من يناصره في السودان وذلك بالرغم من أن الجيش البريطاني في كورتي كان أكثر من عشرة آلاف بأحدث الأسلحة، وإن قائده هو الذي إنتصرعلى العرابيين في واقعة التل الكبير)1(. )1( شكري. أما الشعب البريطاني والرأي العام فيه فقد أصيب بصدمة عنيفة لفشل الجيش البريطاني في إنقاذ غردون وسحق الإمام المهدي، ولم تخف الملكة فكتوريا حسرتها حين بلغها أن الحملة وصلت «بعد فوات الآوان» وكتب أمين سرها الخاص الى بيرنج في القاهرة «لقد كانت الملكة في حالة سيئة بسبب سقوط الخرطوم، وقد كان لهذا النبأ أثره في إصابتها بالمرض، وكانت تهم بالخروج حين إستلمت البرقية فدعتني ثم ذهبت الى منزلي على بعد بضعة أميال، فدخلت الغرفة وقد كانت شاحبة ترتجف، ثم قالت لزوجتي التي إنزعجت بسبب شحوبها- «بعد فوات الآوان» )2(. )2( ثيوبولد- الإمام المهدية. ومنذ هزيمة غردون التي إنتهت بمقتله كان الشعور البريطاني مستاء من إخفاق جيشه في القضاء على الإمام المهدي، وأخذ يلوم قائد طليعة الجيش السير ولسن لأنه تأخر في المتمة يومين بدلاً من الاسراع الي الخرطوم التي وصلها بعد يومين فقط من مقتل غردون، وذهبت تكاليف الحملة ومن قتل منها أدراج الرياح، كما هاجم الرأي البريطاني القائد الأعلى للحملة اللورد وهكذا نجد أن البريطانيين وقعوا في تجربة على الصحراء السودانية كانت أسوأ نتيجة من الحملات المصرية التي إستماتت في القتال في كل شبر من السودان، وفي الوقت الذي كانت فيه القوات المصرية تدافع حتى آخر جندي درج البريطانيون على الهروب من مواجهة المعارك الحامية والتراجع الى الحدود المصرية. وخشي الانجليز أن تجرفهم الحوادث في السودان أكثر من ذلك فينشغل جزء كبير من جيشهم في أراضيه الشاسعة وهم يواجهون صعوبات مختلفة، كما أن قادتهم في السودان إعترفوا بخطورة الزحف دون مزيد من الجنود والمعدات والأموال، ولم يستطيعوا التقدم للاستيلاء على بربر في فبراير خوفاً من الهزيمة خاصة بعد هلاك الجنرال إيرل على أيدي السودانيين، ولذلك فقد تم تقهقر القوات البريطانية بعيداً عن متناول السودانيين الثائرين فعسكروا مرة ثانية في كورتي. وبالرغم من سقوط وزارة الاحرار وتولي المحافظين الوزارة في 24 يونيو 1885 إلا أن قرار إنسحاب القوات من السودان بأجمعه أصبح أمراً مقرراً وذلك خوفاً من حرب طويلة مكلفة أولاً، وثانياً لأن المسألة الافغانية)1( بدأت تطل برأسها في نزاع بين بريطانيا وروسيا، ولذلك فقد تلقى اللورد ولسلي أوامر بسحب قواته الي شمال وادي حلفا. )1( كرابايس: الاستيلاء على السودان )لندن 1934( ص 22 وكرومر ص 27. وهكذا أصبح شمال السودان أيضاً جزءاً من دولة الإمام المهدي كما أضحى مقبرة لعدد من كبار الضباط البريطانيين
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 01/24/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة