عباس سانتينو نقوش علي دفتر الاحوال علي بلدو قبل سنوات خلون، قرع باب منزلنا المتواضع بأمدرمان ذات صباح شتوي جميل من صباحات ديسمبر وباقي صقيع الليل يواصل معركته غير المتكافئة مع شمس الشتاء و كانه النيروز الذي نبه اوائل ورد كن بالامس نوما،طرق الباب شخص أبنوسي الجلدة، طويل القامة مديدها، يحمل في عينيه تثاقل وطيبة ظاهرة للعيان ويرتدي ملابس يبدو أنها من نوع (عبد الواحد) وهو بهذا الحال سألني إن كنت (عاوز أغسل عربية) وهذا ما كان وبعدها نقدته ما طلب وذهب لحال سبيله بعد ان شكرني بادب جم و تهذبب بالغ، ، وتكرر هذا المشهد في الجمعة اللاحقة والتي تليها ونشأت بيننا إلفة، و تخللتها كباية الشاي و التي كان يصر ان تكون بالهبهان، عرفت منها أن اسمه (اباس) ولكن (العرب) يقولون له (عباس) ووالده يسمى سانتينو وهكذا برز في حينا عباس سانتينو الذي عرفناه. ظل عباس سانتينو يقدم خدماته المتنوعة لأهل الحي قاطبة من غسيل و(مراسيل) وردم للمجاري والمطبات وساعده في ذلك امتلاك معظم أهل أم درمان القديمة (للمعاول) و(أب راسين) و(الطورية والكوريك) لزوم تصريف مياه الأمطار وما شابه، وقد كان وفياً ومطيعاً وعالي التهذيب في التعامل، واكتسب شعبية واسعة ونال محبة الجميع وحظي برضاء الكل. كان اباس دائم التبسم و لديه رائ في كل شئ، و من ذلك سخريته من انفصال الجنوب، حيث كان بحتسي كوب الشاي معي و هو يقول ضاحكا بضحكة مجلجلة(يعني نحن حسع انفصلنا)، قبل ان يواصل عمله علي انغام اغاني الحقيبة و التي قال لي حينها انه يخفظها تقريبا. وفي الأشهر المنصرمة لم يحضر كما هي العادة وعلمنا أنه قد وجد ميتاً في أحد الأسواق وساد حزن مبطن بالمرارة أوساط الكثيرين، وشاءت المصادفة أن يكون ظهوره الأخير ايضاً في بدايات ديسمبر ونهاية العام وفي ذات الشتاء والذي ربما أحس ببرده وهو ينام في إغفاءته الأخيرة في فناء السوق، مطوياً على الأرض وملتحفاً السماء. وقربه ارتمى الكيس الذي طالما حمل به الصابون وقطع القماش!! لقد استهزأ عباس سانتينو بالعديد من الأشياء فهو لم يحمل أية ورقة ثبوتية ولم يحمل جوازاً ولا رقماً وطنياً ولا بطاقة ولا حتى جنسية، ولم يحمل ولا شهادة ميلاد، لم يخرج في مسيرة و لا موكب و لا تظاهرة ايا ما كانت، لم يرتكب جريمة و لم يسرق و لم يؤذي انسانا و لا حيوانا و لا نباتا، و انما كان يمشي في ممشاه العريض، وكان اسمه هوما اختاره هو رغماً عن لوائح الإحصاء والسكان، لقد عمل وكسب المال على قلته ولم يدفع رسوماً ولا ضريبة ولا غرامة ولا مخالفة حتى، لم يقرأ ولم يكتب ولكنه تعلم الكثير من العلوم والمهارات، لم يتعرض للتطعيم والتحصين ولم ينم بمستشفى، فقد عاش حراً ومات حراً!! وقيل إنه قد وجد قربه بقايا طعام ومشروب وكذلك أشرطة كاسيت (للكابلي) و(اللحو) فمات بذلك شبعاناً وروياناً وطرباناً، ولعله بتواجده القصير بيننا قد فهم الكثير من معضلات هذا البلد والذي عجز الكثيرون عن فهمها وحلها منذ عشرات السنين، ولعله أدرك السر ولكنه لم يبق ليخبرنا به وإنما اكتفى بأن ابتسم ثم أخذ (كيسه) و رحل!!
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق November, 17 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة