و اما قصة ذلك الرجل العاصمي .. فبدأت عندما كنا نبحث في سيارة نستأجرها لتقللنا الى الخرطوم من مدينة ربك حاضرة ولاية النيل الابيض و قد اشار الينا أحد سماسرة الموقف الذين يصطادون المسافرين الى الخرطوم او غيرها من نواحي السودان المختلفة ليجدوا لهم مقعدا في أحد الباصات السفرية او السيارة الاخرى المختلفة .. أشار الى سيارة تقف على حافة الشارع و ذكر لنا ان صاحبها قد ذهب الى قضاء غرض و سوف يعود بعد لحيظات و انتظرنا الى ما يزيد عن النصف ساعة و اصبحت عودة صاحب السيارة ما بين القول و الظن و تحول السماسرة الى طوافون من حولنا لإقناعنا بالركوب في الباصات السفرية بدلا من الانتظار ... !! و بدأ احساس البحث عن سيارة بديلة يدب في أنفسنا و لم يخزلنا الرجل فسرعان ما حضر الى سيارته و تحدثنا اليه بالأمر فوافق و بسرعة غير معهودة و بدون اخذ و رد كثير او مساومة عقيمة اتفقنا معه على تكلفة المشوار من مدينة ربك الى الخرطوم ... !! لابد ان اشير الى انه كان في رفقتي شخصان عزيزان هما الاخ على ابراهيم محمد الحسن و هو نسيب و صديق و رجل عركته دروب الحياة فتعلم الكثير منها و هو رجل يتمتع بالتعرف الاخرين بسرعة البرق اضافة الى ذلك فلعلى ابراهيم خبرة كبيرة في الاسفار بين مدن السودان المختلفة و بدون مجاملة فالرجل يعرف كيف يتعامل مع الاخرين بأحسن ما يكون و أما الشخص الآخر فهو الدكتور عبدالمجيد عبدالرحمن المعروف بأبي ماجدة و هو رجل عالم متواضع و رجل شهم و كريم ... !! فركب ثلاثتنا السيارة و سرعان ما بدأت تسير بنا نحو الخرطوم و لم يتبقى من مغيب الشمس الا سويعات فاستقبلنا ناحية الخرطوم و تركنا مدينة ربك في من خلفنا .. باعتبارنا ضيوف على صاحب السيارة فكنا نتوقع منه يبادرنا بالسلام او بالكلام او التعارف فلم نجد منه غير تحية مرت بعجل لم تعقبها كلمات ترحيب او مجاملة كعادة اهل السودان .. و لما أحسست باطلا ان الجو مشحون و خشيت ان ينفجر اقترحت على عبدالمجيد ان يتعرف على الرجل صاحب السيارة و ذلك لأن عبدالمجيد يجلس بجانبه .. بادره الدكتور عبدالمجيد ان عرف نفسه و اتيحت الفرصة لكل منا ان يفعل ذلك و اما قائد السيارة فلم يبرع ان عرف نفسه غير انه اكتفى بذكر اسمه و من ثم لاذ بصمت عميق لا قبل لنا به ... !! و تسألت في نفسى : هل بهذا الشخص صمم او بكم او خرص و قررت ان اجره الى الكلام جرا و ذلك من خلال تناول بعض الموضوعات العامة و المختلفة و البسيطة بحسبان انى لم اعرف ذلك الرجل غير انه سائق سيارة لكن دون جدوى .. فقررت ان أساله مباشرة عن بلدته او القرية التي ينحدر منها حتى اقرب المسافة التي بيننا مجازا و ما ان ذكر الرجل القرية التي أتى منها و ذكر عدد من معارفه هنا هناك و اولاد دفعته في المرحلة الثانوية سرعان ما تبين ان بيننا معارف و اصدقاء مشتركين كثر بل ان له معرفة و صلة وثيقة بعدد من اعضاء أسرتي .. بالرغم من كل ذلك و الى تلك اللحظة لم يستبين و يوضح لى بجلاء من هو ذلك الرجل و ظللت في حيرة من امرى دون منقذ ... !! و دارت عجلات السيارة و بسرعة و بعد مدة قصيرة من الزمن مررنا بمصنع سكر عسلاية و سرعان ما كنا قبالة الجزيرة ابا .. تلك المدينة الباسلة التي انطلقت منها ثورة اجدادنا ضد المستعمر وبعد تقاطع الجزيرة أبا ببضع كيلومترات و جدنا ان شارع الاسفلت الرئيسي الذى تسير عليه عربتنا مغطى بمياه الامطار الى اخره بل ان المياه ممتدة و قد فاضت فيضانا شرق و غرب الشارع على مد البصر والشجر متفرق في وسط تلك المياه و قد اخضر اخضرارا يحسد عليه .. فتحدث اربعتنا عن هذه الامكانيات الطبيعية التي يحظى و يمتاز بها السودان عن كثير من دول العالم و مما قلنا .. مياه تغطى مساحات مترامية الاطراف و شاسعة و فيها أشجار كثيرة و متنوعة و قد اتت اليها الطيور من كل فج عميق .. بيض .. و خضر .. و زرق .. و سود .. لتتخذ من فورع الاشجار بيوت لها .. لو ان هذه الطبيعة هذه في بلد آخر لاتخذ هذا المكان و جعل منه منتجعا سياحيا يقدم اليه السائحون من كل انحاء العالم .. صدقوني .. فجمال تلك المنطقة لا يقل بهجة و نضارة و جملا عن شلالات نياجرا التي تقع في الحدود بين كندا و امريكا ... !! و نحن نسير في وسط هذه تلك المياه احسسنا فعلا أن السيارة التي تقلنا ما هي الا سفينة تمخر في يباب متسع و عميق .. و ناقشنا انه لابد من انشاء جسر من فوق هذه المياه بطول المكان الذى تغطيه المياه على ان يكون جسرا عريضا و فيه موقف للسيارات حتى يتوقف الناس و يستمتعون بتلك المناظر الخلابة التي تسر الناظرين ... !! و بعد اجتيازنا لتلك البرك المائية بقليل توقفنا لشراء بعض مما نحتاج من ماء للشرب و طعام خفيف للتسالي و عند عودتنا الى السيارة قدمنا للسائق بعضا مما شرينا فقبله شاكرا و مقدرا و لاحظنا انه لم يأكل منه او يشرب و لكنه لاذ بالصمت مرة أخرى و بما ان الطريق كانت سيئة جدا و لم تكن ممهدة و لا مستوية و كانت هناك عدد كبير من الحفر العميقة تتوسط الطريق فلقد كانت قيادة صحبنا للعربة قيادة ممتازة غير ان كثير من تلك الحفر لا يمكن تفاديها و حتما فان الوقوع فيها قد يصيب السيارة و صاحبها في مقتل ... !! و عندما حان وقت صلاة المغرب توقف بنا الرجل عند أحد محطات ضخ البترول على خط الانابيب الذى ينقل البترول الخام من مناطق الانتاج الى مصفاة الجيلي شمال الخرطوم فكان مكان الوضوء نظيف المسجد كذلك فأقام احدنا الصلاة و قدمنا الرجل لان يؤم الصلاة .. هنا كانت المفاجأة الكبيرة .. فالرجل يقرأ قراءة الحافز لكتاب الله و بوضوح و جلاء انه متمكن و مجود واثق ثقة كبيرة في نفسه و قرأته كانت تدل على تمكنه و تجويده و حفظه للقرآن الكريم فصلينا من ورائه المغرب و العشاء جمعا و قصرا و لما انتهينا من الصلاة قررت ان اسأله بطرقة مباشرة عن نفسه و من يكون و بالفعل عند عودتنا الى السيارة سألته عن نفسه فكان أجابته بتواضع و ادب كبيرين .. فذكر انه متقاعد من احد افرع القوات النظامية و ان آخر رتبة كانت له هي عميدا ...!! لا يمكنني ان اذكر تفاصيل اكثر عن الرجل ... !! و عند عودتنا الى السيارة لمواصلة الرحلة لاحظت ان الرجل قد شرب قليلا من المياه التي وضعها جانبا من قبل و بسؤالنا له علمنا انه صائم العشر تلك الليالي العشر التي ذكرت في القرآن و هي الايام العشرة الاولى من شهر ذي الحجة ..!! فادركت ان صمته الذى لاحظناه في البدء لم يكن من فراغ بل كان صمت الصالحين الصائمين الذين لا تجدهم في هذا الزمان الا قليلا صمت عن اللغو و خوف من الوقوع في ما لا يرضى الله .. رجل يشغل نفسه بعبادة الله دون الجهر بها او التحدث عنها ... !! وصلنا الى الخرطوم العاصمة و تحدثنا اليه ان بإمكانه ان يوصلنا الى البيت فوافق و لما وصلنا الى البيت طلبنا منه المبيت في بيتنا فواق و بعد تناول عشاء خفيف استسلم جميعنا الى النوم و بسرعة غرقنا في النوم من شدة التعب و الاجهاد و السفر ... !! و بعد اقل من حوالى ساعتين الزمان اذا بالرجل ينهض من سريره كالمصروع فأيقظني فوجدته قد نهض من رقدته ليعد نفسه لقيم الليل .. و ظل على حاله عابدا و متهجدا الى ان بزغ الفجر فدمناه فصلى بنا صلاة الفجر و أحسن قراءة صورة الرحمن و رتلها ترتيلا ... !! قليل ما نجد في هذا الزمان من يقيم الليل عابدا متهجدا... !! بصبيحة اليوم الثاني .. اتضح لنا ان الرجل بعد نقاش طويل و مستفيض ان الرجل بحرا في العلوم المختلفة و ان له ادراك تام و مفصل في كثير من جوانب الحياة المختلفة و انه موسعة في مجال تخصصه و يجيد اللغة العربية و الانجليزية و له فيهما باع كبير ... !! سألته .. لماذا لا يقدم نفسه يستفاد منه في احدى الادارات الحكومية او التطوعية المختلفة او التدريس في الجامعات الكليات التي لها علاقة بمجاله .. بدلا من قيادة السيارة ليلا نهارا في سبيل الحصول على لقمة العيش الحلال.. فأجابني و رد على بردود و اجابات قبلتها على مضض .. !! و ربما رجل اشعث اغبر ...!! هذا الشخص رجل نحسبه عند الله من الصالحين ...!! و كما ذكرت رجل صوام بالرغم من وعثاء السفر و شدة و وعورة الطريق و طوله ...!! رجل قوام بالرغم من الارهاق و التعب الذى اصاب جسمه ...!! رجل يخاف الله سرا و علانية يصوم و الناس فاطرون و يصلى و الناس نيام... !! و الاهم انه رجل يعمل بجد و اجتهاد و يكد و يجتهد لان يكسب عيشا حلالا كريما طيبا ... رجل لم يمد يده الى المال العام قط و الدليل على ذلك انه لا يملك غير سيارته التي يعمل عليها ليلا نهارا ليجد و يوفر لقمة طيبة له و لمن يعول... !! و السؤال الذى يفرض نفسه ...!! لماذا لا تستفيد الحكومة الاتحادية و الولائية من المتقاعدين و المعاشيين من امثال هذا الرجل ... !! لماذا لا تتعاقد الحكومات بمستوياتها المختلفة مع هؤلاء بالمشاهرة او part time للاستفادة من خبراتهم الكبيرة وما اكتسبوه من علم و معرفة خاصة ان السودان في امس الحاجة الى كوادر وطنية صادقة و امينة و لها خبرة و كفاءة و امينة ...!! هذا الرجل.. و امثاله .. أقوياء و لا يزالون في قمة العطاء و البذل.. فالأوطان تبنيها الأيدي الوطنية الامينة المخلصة .. نعيب زماننا و العيب فينا و ما لزماننا عيب سوانا ... !!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة