في اعتراض العمدة المصري البسيط على الشخص اليوناني المتحذلق الذي نسب الإسلام إلى الظلم حين أباح للمسلمين نساء أهل الكتاب وحرم المسلمات على أهل الكتاب قال العمدة الوقور: نحن المسلمون نعتقد أن رسل الله جميعا أهل صدق وأنهم جميعا أرسلوا إلى الناس بالطريقة نفسها التي أرسل بها خَاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك فإذا تزوجت فتاة نصرانية أو اسرائيلية فإن بإمكانها أن تطمئن إلى أن أحدا من أنبيائها المقدسين لا يمكن أن يؤتى على ذكره بين أفراد عائلتها الجديدة إلا بكل تبجيل واحترام؛ في حين إذا تزوجت مسلمة من غير مسلم فإن من تعتبره رسول الله خليق بأن يذم ويساء إليه، ولربما من قبل أولادها أنفسهم؛ فهل تعتقد أن من العدل تعريضها لمثل هذا الإيلام والإذلال؟! وقد ذكر سيدنا ليوبولد فايس رحمه الله أن اليوناني المتحامل لم يجد ما يجيب به عن قول العمدة الحكيم إلا هزة من كتفه، أما أنا فقد بدا لي العمدة الأمي بذلك الذوق السليم، الذي يتميز به قومه المصريون إلى حد بعيد، قد أصاب الكبد من مسألة على جانب عظيم من الأهمية. وأضاف محمد أسد يقول: ومرة أخر كما حدث لي مع ذلك (الحاجي) الهرم في القدس شعرت أن بابا جديدا إلى الإسلام يفتح لي. وقد قلت أنا في ختام مقالي في الرد على الأستاذة عبير: أما ذلك (الحاجي) المقدسي فقد كانت له حكمة أخرى من حكم الناس الأميين البسطاء العظام، وقد كان من شأن تلك الحكمة أن فتحت بابا آخر لمحمد أسد وهو يسعى في طريقه - من دون أن يشعر - إلى اعتناق دين الإسلام، وهي قصة نرجو أن تتاح لنا الفرصة لاستعراضها في مقال لاحق بإذن الله. وها أنا أوف بوعدي بحول الله تعالى فأتحف القارئ الكريم بهذا النص الثمين من عقد نصوص سيدي وإمامي الروحي والفكري محمد أسد رضي الله عنه وأرضاه. قال محمد أسد: في ذلك الخريف من عام 1922م كنت أعيش في بيت خالي (دوريان) داخل مدينة القدس القديمة، وكانت السماء تمطر كل يوم تقريبا مما لم يمكنني من الخروج إلا قليلا. ولذا فإني كثيرا ما كنت أجلس إلى النافذة التي كانت تطلُّ على فِناءٍ متَّسعٍ وراء البيت، وكان هذا الفِناء مِلكا لرجل عربي يُدعى حاجي، كان يؤجِّر الحمير للركوب وحمل الأثقال، وجعل من الفناء نُزلا لمبيت القوافل. وفي أثناء النهار كانت أجسام الجمال الثقيلة ترى مضطجعة على الأرض، والرجال لاغطين دائما منهمكين بالعناية بها وبالحمير ... وكان الحاجي يجمعهم عدة مرات في النهار للصلاة، وكانوا يقفون جميعا في صف طويل واحد، وكان هو إمامهم. كانوا كالجنود في دقة حركاتهم، ذلك أنهم كانوا ينحنون معا باتجاه مكة، ثم ينهضون ثانية ليركعوا ومن ثم تَلمَس جباهُهم الأرض، كانوا يتَّبعون كلمات قائدهم الخافتة، وكان يقف بين الركوع والسجود حافي القدمين على سجادته المعدَّة للصلاة، مغمض العينين، مكتوف الذراعين فوق صدره، محركا شفتيه دونما صوت، وشاردا في استغراق عميق، لقد كان في مُكْنتك أن ترى أنه كان يصلِّي بروحه كلها. والحقُّ أنه قد أزعجني أن أرى مثل تلك الصلاة العميقة مقترنة بحركات جسمانية آلية، فسألت الحاجي ذات يوم وكان يفهم الإنجليزية قليلا: هل تعتقد حقا أن الله ينتظر منك أن تظهر له احترامك بتكرار الركوع والسجود؟! ألا يكون من الأفضل للمرء أن يخلو بنفسه وأن يصلي إلى الله في قلبه؟! لِمَ حركات جسمك هذه كلها؟! ولم أكد أنطق بهذه الكلمات حتى شعرت بالندم وتأنيب الضمير، ذلك أنني لم أكن أنوي أن أجرح شعور الشيخ الديني، ولكن الحاجي لم تَبْدُ عليه قط أمارات الاستياء، لقد افْتَرَّ فمه الخالي عن الأسنان عن ابتسامة وأجاب: بأية طريقة أخرى إذن يجب أن نعبد الله؟! بأية طريقة أخرى يجب أن نعبد الله؟ ألم يخلق الجسد والروح معا؟ وإذا كان هذا كذلك، أفلا يجب أن يصلي الإنسان بجسده كما يصلي بروحه؟ اسمع سأفْهِمك لم نصلِّي نحن المسلمون كما نصلِّي. إننا نولي وجوهنا نحو الكعبة، بيت الله الحرام في مكة، مدركين أن المسلمين كلهم حيثما كانوا، مُولُّون وجوههم نحوها في صلاتهم، وأننا كجسد واحد، وأن الله هو محور تفكيرنا جميعا، نحن نقف أولا مستقيمين، ونقرأ شيئا من القرآن الكريم، ذاكرين أنه كلمة الله أنزلها على الإنسان كي يكون مستقيما رصينا في الحياة. ثم نقول الله أكبر مذكِّرين أنفسنا بأنه ما من أحد يستحقُّ أن يُعبدَ إلا هو، ونركع لأننا نعتبره فوق كل شيء، ونسبِّح بعزَّته ومجده، وبعد ذلك نسجد على جباهنا لأننا نعلم بأننا لسنا تجاهه إلا من العدم والتراب، وأنه هو الذي خلقنا، وهو ربُّنا الأعلى، ونرفع وجوهنا عن الأرض، ونبقى جالسين داعين إياه أن يغفر ذنوبنا، وأن يتغمَّدنا برحمته، ويهدينا الصراط المستقيم، ويهبنا العافية والرزق. ثم نسجد ثانية على الأرض، ونلمس التراب بجباهنا تجاه عزة الواحد الأحد وعظمته، وبعد ذلك نستوي جالسين، وندعو الله أن يصلي على النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي بلَّغنا رسالته كما نصلى على الأنبياء من قبله، وأن يباركنا أيضا وجميع من يتَّبعون سواء السبيل، ونسأله أن يهب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وفي النهاية نُدير رؤوسنا إلى اليمين وإلى الشمال قائلين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبذلك نُحيِّي كل من كانوا صالحين حيثما كانوا. هكذا كان النبي يصلي، وهكذا علَّم أتباعه الصلاة في جميع الأزمنة والعصور، وذلك كيما يُسلِموا أنفسهم إلى الله مختارين طائعين - وهذا هو معنى الإسلام – ويطمئنوا إلى مصيرهم أيضا. إن الرجل الشيخ لم يستعمل طبعا هذه الكلمات بالضبط، ولكن هذا هو ما عنَاه، وهكذا أذكرها حتى اليوم. وبعد ذلك بسنوات عدة، أدركت أن الحاجي بتفسيره البسيط قد فتح لي أول باب للدخول في دين الإسلام. ولكن حتى ذلك الوقت، أي قبل أن يُخالجني بزمن طويل أي تفكير في أن الإسلام يمكن أن يصبح دينا لي، بدأت أشعر بخضوع غير عادي كلما رأيت رجلا يقف حافي القدمين على سجادته المخصصة للصلاة، أو على حصيرة من قشٍّ، أو على الأرض العارية، مكتوف الذراعين، مستغرقا بالكلية في ذات نفسه، ناسيا كل ما يجري حوله، سواء كان ذلك في أحد المساجد، أو على رصيف أحد الشوارع المكتظة، رجلا مطمئنا إلى نفسه. المصدر: محمد أسد، الطريق إلى الإسلام، ترجمة عفيف البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 1994م، ص 99 - 102.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة