ورقتي في لقاء نيروبي : علمانية الدولة أم دينيتها؟- د. النور حمد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-19-2024, 09:44 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-04-2017, 06:10 AM

زهير عثمان حمد
<aزهير عثمان حمد
تاريخ التسجيل: 08-07-2006
مجموع المشاركات: 8273

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
ورقتي في لقاء نيروبي : علمانية الدولة أم دينيتها؟- د. النور حمد

    05:10 AM March, 04 2017

    سودانيز اون لاين
    زهير عثمان حمد-السودان الخرطوم
    مكتبتى
    رابط مختصر

    "1"

    محاولة لمؤالفة المفهومين ..

    مقدمة
    عبارة "تحكيم شرع الله"، ظلت، لعقود طويلة، هي العبارة السحرية، التي استطاعت تيارات الإسلام السياسي أن تحشد بها، سياسيًا، قطاعًا عريضًا من الجمهور المسلم، وتحصره بها في جيب التبسيط. وهكذا، نشأ التصور، بأن ما دُرج على تسميته، تاريخيًا، "الشريعة الإسلامية"، هو الوصفة السحرية الوحيدة، الكفيلة بحل قضايا الفكر، والسياسة، والاجتماع، في واقع المسلمين الحديث، المأزوم، المتسم بالتركيب والتنوع، والتعقيد.
    هذه الدعوة التي بدأت ارهاصاتها في ما يُطلق عليه، "عصر النهضة العربية"، ثم علا صيتها في النصف الأول من القرن العشرين، خاصةً، في مصر وباكستان، دعوة مأزومة، أفرزتها الصفعة الحضارية المجلجلة، التي نتجت عن التقاء الشرق الإسلامي، وجهًا لوجه، مع الحضارة الغربية، إبّان الحقبة الاستعمارية. حينها، أدركت النخب المسلمة، عن يقينٍ، مقدار تخلف واقعها. ولكن، بدلاً من أن تتجه عقول هؤلاء الدعاة، من حملة شعار "الدستور الإسلامي"، و"أسلمة الدولة"، إلى مناقشة سبل الخروج من ربقة التخلف، بدراسة التجربة الغربية، ومعرفة الكيفية التي انطلقت بها أوروبا من سيطرة الكنيسة، والإقطاع، وقبضة الحق المقدس للأباطرة والملوك، في الحكم، اختاروا الانكفاء على الجوانب غير المشرقة، في تاريخهم الديني، والعودة إلى متون النصوص الدينية، وتأويلاتها القاصرة عن شأو العصر، لدى الكتاب المدفوعين بالعاطفة الدينية، وحدها، محاولين كبس واقع بالغ السعة، والتعقيد، والحيوية، في أضابير نصوص الفقه القديمة، بالغة الضيق.
    بدلا من تقديم أدبياتٍ نقديةٍ وفكرٍ إصلاحي، جنح هؤلاء الدعاة للمزايدة، والاستعلاء. فامتطوا ظهر حصان التفوق الأخلاقي المتوهم، فوصف بعضهم؛ مثال محمد قطب، الحالة الكوكبية المتوثبة، حينها، المحتشدة من أجل تحقيق قفزاتٍ أكبر في التقنية والتنمية، وفي الديمقراطية، وحقوق الإنسان، بـ "جاهلية القرن العشرين". أدى ذلك التبسيط إلى انحصار قطاعٍ كبيرٍ جدًا، من العقول العربية والإسلامية، خاصة عقول الشباب، والطلاب، على امتداد العالم الإسلامي، في هذا الجيب المتحوصل، غير المنتج. وهكذا، أضاع رد الفعل المأزوم، تجاه تقدم الغرب، على الشعوب الإسلامية، ما يقارب القرن من الزمان، أُنفق معظمه في العنف السياسي، والتجارب الاعتباطية. لكن، كما رأينا، فقد دعت، حركة النهضة التونسية، مؤخرًا جدًا، وهي أول الخارجين من تلك الغيبوبة الطويلة، إلى ضرورة فصل الدّعَوِي عن السياسي. وجاء ذلك، بصورةٍ مفاجئة، وبلا تسبيبٍ منهجيِّ كاف. وهو أمرٌ يوحي، أن ضغوط الواقع السياسي، وحساباتِ الربح والخسارة، كان لها الدور الأكبر في إحداث تلك النقلة. ومع ذلك، يُحمد لحركة النهضة ذلك الإعلان، لأن فيه اعترافًا عمليًا بالأزمة، ودعوة للتفكير على نحوٍ جديدٍ، مغاير.
    من الناحية الأخرى، نشأ من صدمة الاحتكاك بالغرب، عن كثبٍ، تيارٌ آخرٌ، مأزوم، تمثل في الماركسيين، والعروبيين؛ من ناصريين، وبعثيين. أدار هؤلاء ظهرهم لتراثهم، وواقعهم الثقافي، والاجتماعي، لتنشأ على أيديهم ما يمكن أن نصفها بحكومات الصفوة المغتربة عن واقعها، المنبهرة بالعلمانية، ولكن، على النمط الشيوعي، الاستبدادي، الذي يعتمد نظام الحزب الواحد، والدولة الأمنية. عطلت هذه النخب العلمانية العروبية، حراك الوعي، وحراك الثقافة الحرة، والتنمية، وحراك تجديد الخطاب الديني، وقعدت بالأوطان، عقودًا من الزمان. وحين تساقطت هذه الأنظمة، مؤخرًا، في ثورات الربيع العربي، أسفر التحول المعلول، الناقص، الذي جرى، عن خرابٍ، ودمارٍ، وهجراتٍ جماعية ملحميةٍ، واضطرابٍ في العلاقات الدولية، وانبهامٌ للسبلِ، وحيرةٍ، مطبقةٍ. وكما رأينا في مصر، فقد أعادت النخب الكارهة للإسلام السياسي الديكتاتورية العسكرية، من جديد، بعيارٍ أقل، وكفاءةٍ أقل، وأحوال مصرية عامةٍ أسوأ. وتقول الشواهد، الآن، إن الأزمة المزمنة، قد أخذت تعيد إنتاج نفسها، على نحوٍ جديد. ولقد مثل السودان، الذي هو موضوع هذا الملتقى، المختبر الذي جرت فيه تجربة الإسلام السياسي، التي قدمت أبلغ دليل على أن "أسلمة الدولة" تعني، بالضرورة، تقسيمها، وشرذمتها، واجهاض طاقة دفعها، وتعطيل كل قواها الحية.

    جدلية الديني والعلماني :
    مالت النخب الحداثية السودانية، في معسكري العَلمانية، والدين، في ممارستهما السياسية، في الواقع السوداني، إلى نهج القفز على الواقع، والتغيير من أعلى إلى أسفل. فاتبعت نهج الانقلابات العسكرية، بدلا من العمل الوئيد من القواعد، صُعدًا إلى أعلى، طلبًا للتغيير. انتهت الانقلابات العسكرية، التي قام بها كلٌّ من العلمانيين، والإسلاميين السودانيين، إلى فشلٍ مدوٍّ. فالنخب التي قادت هذه المسيرة الطويلة، التي اتسمت بالإخفاق الشديد، لم تكن تملك إدراكًا عميقًا، لا للعلمانية، ولا للدين. وقف وراء تجارب الحكم العربية الإسلامية الطويلة المتعثرة، تصوران قاصران. فلا العلمانية، كوعاء للحريات، وللديمقراطية، وفصل السلطات، ولشفافية الحكم، ولحراسة الحقوق، كانت مفهومةً، ومطبقةً، كما ينبغي. ولا الدين، في بعده الروحاني، الذي يربط المجتمعات بمرجعيته الأخلاقية، وقواعد تربيته، خاصة تربية النشء، وبوصفه؛ أي الدين، رافعةً ساندةً لثقافتها التكافلية، التراحمية، كان، هو الآخر، مفهومًا، على نحوٍ صحيحٍ. فيسارنا العلماني، ديكتاتوري إقصائي، وإسلاميونا، ديكتاتوريون إقصائيون، بل، ورأسماليون أقحاح، كما بينت تجربة الانقاذ في السودان. فهم يرفعون الشعار الإسلامي، ويديرون البلاد بمنهج الرأسمالية المتوحشة، فيطحنون مجتمعاتهم، ومنظومة قيمها، طحنًا ذريعًا.
    هناك عداء أعمي للفظة "ديني"، وسط قطاع ٍعريضٍ من العلمانيين. وهناك عداء أعمى للفظة "علماني"، وسط قطاعٍ كبيرٍ من المتدينين. وعليه، نشأت حالةٌ من الاستقطاب والانقسام المجتمعي، تتسم بالسير في خطين متوازيين، وبعدم الاستعداد، بل، وعدم القدرة على توليف المفاهيم، ومزاوجتها. رغم أن "علمانية الدولة"، من جهة، و"روح الدين"، من الجهة الأخرى، لا يقفان، في حقيقة الأمر، على طرفيْ نقيض. فالذين يرون ضرورة أن تكون الدولة، بوصفها جهازًا إداريًا مُنسِّقًا لجهود الأمة، دولةً علمانية؛ أي محايدةً تجاه الأديان المختلفة، لا ينبغي أن يكونوا، بالضرورة، في نظر خصومهم، رافضين للدين، أو معارضين للتدين، ولقيمه الرفيعة. كما أن مفهوم التدين، لدى غلاة العلمانيين، الذين يرون في الدين ممارسة من مخلفات الماضي، وأن دوره في الحياة لا يتعدى تعطيل طاقات الشعوب، وحراسة التخلف، مفهوم أوشك، هو الآخر، على الانقراض. فحالة العداء المطلق للدين وللتدين، التي أذكتها التصورات الماركسية، اللينينية، الاستالينينة، الماوية، وبلغت حدَّ تجريمه، تبخّرت، هي الأخرى، تمامًا، مع انهيار المنظومة الشيوعية. ووضح أن غالبية البشر يظلون متدينين، بطريقةٍ أو بأخرى. بل، لقد كانت الكنيسة البولندية، ذراعًا، قويًا، داعمًا لحركة "تضامن"، التي فككت النظام الشيوعي، وأعادت الحريات والديمقراطية في بولندا. كما أن تيار لاهوت التحرر، في أمريكا اللاتينية مثل ذراعًا ساندةً للتحول الديمقراطي,
    بقي التدين، كما هو واضح من كل مسيرة التاريخ الإنساني، ظاهرةً مرتبطةً عضويًا بالتكوين النفساني للفرد البشري، وللجماعات البشرية، أينما وجدت. بل أثبت علم الاجتماع الدور التاريخي للدين في حياة المجتمعات. لكن، كما يرى هبرماس، فإن من اللازم على الوعي الديني، أن ينجح في اجتراح صيرورةٍ اندماجيةٍ في المجتمع الحديث. فعلى الرغم من أن الدين يمثل في الأصل، "تصورًا للعالم"، أو "فهمًا قائمًا على عقيدة"، يرى أن من حقه الوصول إلى السلطة، ليبني شكلاً من أشكال الحياة، في إطارٍ كليٍّ، فإن عليه الآن أن يعرف كيف يستغني عن هذا الحق. بعبارةٍ أخرى، على المتدينين أن يستغنوا عن الحق في احتكار التأويل، والتنظيم الشامل للحياة، نزولا عند شروط علمانية العلم، وضرورة أن تكون سلطة الدولة سلطةً محايدة، تتيح المجال العام للحريات الشاملة، وألا تتصرف وكأنها تمثل الحق المطلق . ومن الناحية الأخرى، لا يحق للمواطن العلماني، طالما ارتضى أن يقدم نفسه كمواطن، أن ينكر إمكانية صحة التصورات الدينية المتعلقة بحقيقة العالم. ولا ينبغي من ثم، أن ينكر على المواطن المتدين حقه في التعبير عما يراه، بلغةٍ دينية، وحقه في طرح مواضيع للمناقشة العمومية، من منظورٍ ديني. أكثر من ذلك، ينبغي على الثقافة العلمانية الليبرالية أن تطالب المواطن العلماني أن يجتهد من أجل ترجمة الدراسات الدينية المهمة، إلى لغة عمومية، واضحةٍ بالنسبة للجميع.
    يرى كمال عبد اللطيف، على سبيل المثال، أن هناك ضرورة مستمرة، لتجديد النظر السياسي وتطويره. ويعني هذا ألا يرتبط استخدام مفهوم العلمانية، في الجدل السياسي، في السياق العربي الإسلامي، الراهن، بدلالاتٍ متحجرةٍ، مغلقةٍ، ونهائية. بل ينبغي أن يتحول استخدامه، في هذا السياق، إلى مناسبة لإعادة انتاجه، وإعادة تعريفه في السياق السياسي المحلي، بدلالاتٍ، جديدةٍ، قادرةٍ، على أن تستوعب متغيراتِ المجال السياسي، في أبعاده المختلفة. يرى عبد اللطيف، أن علاقة السياسي بالديني ليست علاقةً رياضيةً، ومن ثم، لا يمكن تحويلها إلى عمليةٍ حسابيةٍ مغلقة. فهي في حقيقتها، مجالٌ قابلٌ للتفجير، وللتشظية .
    أصبحت "علمانية الدولة"، بمعنى وقوف مؤسسة الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان، وحراسة مبدأ كفالة حرية الفكر، وحرية الاعتقاد، وحرمة الضمير، شرطًا لازمًا، ليقوم التدين لدى الأفراد على الاقتناع، لا على الخوف. ويرى، عبد الله النعيم، على سبيل المثال، أن علمانية الدولة، التي يفرق النعيم بينها وبين علمانية المجتمع، ضرورية للغاية، لكي يمارس المتدين دينه بطريقةٍ أصيلة، صادقةٍ، لا نفاق فيها. يقول النعيم:
    لكي أكون مسلمًا عن اقتناعٍ، وإرادةٍ حرة، وهي الطريقة الوحيدة لكي يصبح المرء مسلمًا حقيقيًا، فإنني أحتاج دولةً علمانية. وأعني بالدولة العلمانية تلك الدولة المحايدة تجاه الأديان المختلفة، وهي الدولة التي لا تدّعي، أو تقوم فعلاً، بفرض الشريعة؛ أي، القوانين الدينية للإسلام. فالشريعة الإسلامية، ببساطة شديدة، لا يمكن فرضها عن طريق القهر والخوف من مؤسسات الدولة ... هذا ما أعنيه بالعلمانية، في هذا الكتاب؛ وهو، تحديدًا، وجود دولة علمانية، تيسِّر إمكانية نشوء التقوى، وسط الأفراد، انطلاقًا من اقتناعٍ صادق.

    منح الرأي سلطة المقدس :
    لا يزال أهل التصور الديني الجامد، يرون أن السماء، قد شرّعت للبشر، مرةً واحدةً وإلى الأبد، وذلك، منذ نزول القرآن. ويرون أن ذلك التشريع سيبقى على ما هو عليه، حتى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبسبب ذلك المفهوم لا ننفك نسمع أن "الشريعة صالحة لكل زمان ومكان". غير أن الفقهاء الذين روجوا لهذا المفهوم، لم يلتزموا به. فقد اضطرتهم تغيرات المجتمعات، واختلاف حاجاتها، بل، واختلاف الزوايا التي يرى منها الفقهاء، أنفسهم، الأمور، إلى أن يلحقوا آراءهم هم بالشريعة؛ أي بالمقدس، أو ما ظنوه مقدسًا، لا تجوز مناقشته، أو تعديله. وهكذا أصبحت آراء الفقهاء جزءًا من ذلك المقدس، رغم مجافات كثير منها لروح الدين، بل وللفطرة السليمة .
    جرى ادغام آراء الفقهاء في بنية المقدس، على الرغم من أن آراءهم، في حقيقتها، آراء يمكن أن نصفها بأنها "علمانية". فهي، في حقيقتها، استجابة عقلية، لما لم تغطه النصوص المقدسة. ولذلك، فإن آراء الفقهاءـ ليست مقدسة، وليست نهائية. فهي اجتهادات عقول بشريةٍ، محكومةٍ بإطارٍ ظرفيٍّ وسياقٍ تاريخي، بعينه. ولكن لتكريس الاستبداد باسم الدين، وقفل الباب على أي مجتهدين جدد، أُعلن، في التاريخ الإسلامي عن، "قفل باب الاجتهاد". وهكذا تحول الفقه الإسلامي المدرسي، هو الآخر، إلى كهنوتٍ جديدٍ، لا يختلف عن الكهنوت الكنسي، الذي ثارت عليه أوروبا قبل قرون. فحالة الخنق التي عانت منها أوروبا في العصور الوسطى، هي ذاتها، ما تعاني منها المجتمعات الإسلامية اليوم.
    على ذات هذه الأرضية الفقهية، ومنهاجها غير المتسق، وغير المنسجم مع ذاته، نشأت، في ما بعد، حركة الإسلام السياسي، في تجلياتها المختلفة، لتمزج الاستبداد الفقهي، الذي منح آراء الفقهاء قوة المقدس، بالاستبداد السياسي، الذي وجد أن أفضل سبيلٍ لحماية استبداده الأرضي، هي نسبة آراء البشر العاديين، بل، وحتى القاصرين معرفيًا، إلى سدة المقدس. وهكذا، أصبح وكأنّ الجهة التي تشرع، وتحكم، وتقتل، وتعذب، وتمارس الظلم، وتسلب الحقوق، وتقوم بكل التجاوزات، هي السماء.
    لقد نشأت العلمانية، في السياق الإسلامي، مع نشوء الحاجة للفقه، منذ القرون الأولى للدعوة الاسلامية. كل ما في الأمر، أن التسويغ الذي نشأت به، وقد كان تسويغًا صحيحًا، انتهى إلى حصر حق ممارسته، إلى حدٍ كبيرٍ، في أئمة المذاهب. فرغم أن الحياة قد تغيّرت في القرون الأخيرة، بصورةٍ لا سبيل إلى مقارنتها بالأحوال اتي كانت سائدةً، في زمان أئمة المذاهب، فقد بقي الناس يظنون أن حل أي معضلة فقهية، لا يزال متوفرًا في المتون التي خطها أئمة تلك المذاهب، رغم قِدم أحكامها، وعدم مناسبة كثيرٍ مما قالت به، لزماننا الراهن. وليس أدل على هذا الاستبداد بالرأي، والاصرار على خنق العقول، الذي أدغم آراء بشرٍ عاديين، تتسم أحيانًا بالقصور البيِّن، بقداسة، وإرادة السماء. وليس أدل على ذلك، من حادثة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، التي جرت في الربع الأخير من القرن العشرين، لمجرد أنه جاء بآراء من داخل بنية الفكرة الإسلامية، اختلفت عما يراه الفقهاء، في الأزهر، ورابطة العالم الإسلامي، وجامعة أمدرمان الإسلامية، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف السودانية، والحركة الاسلامية السودانية.
    تحمل الحاجة العملية التي أوجبت نشوء الفقه، أقوى الدلالات على أن الديني لا يمكن يستغني عن العلماني. بعبارة أخرى، لا يوجد تشريع سماوي يتضمن من التفاصيل ما يستوعب قضايا الحياة المتجددة، التي يخطئها العد، والتي لا يمكن مقارنة سياقها وتعقيداتها الراهنة، بأي مما كان عليه حال المجتمعات في الماضي. فلا بد من أن يقوم العقل، ودعنا نسمه هنا، "الرأي البشري"، أو "الرأي العلماني"، بالمزاوجة بين روح الدين ومراده، وبين تفاصيل حاجات الناس المتغيرة دومًا. وعمومًا فإن قصة تكاملية الديني والعلماني، ليست جديدة.
    فما يتصوره البعض، تضادًا، وتوازيا ثابتًا، بين الدين والعلمانية، تراه التيارات الفكرية الأحدث، في الفكر المعاصر، مجالاً متداخلاً له طرفان يسهمان بحوارهما، ونقدهما لبعض، في انتاج سيرورة كلية واحدة. وعلى سبيل المثال، يرى روبرت كولز، أن العلمانية، بوصفها نزوعًا للعقلنة، انبثقت من داخل بنية الدين نفسها، كما في حالة الكاثوليكية، التي أنجبت البروتستانتية . وكما لم يستغن المقدس عن العقلي، "العلماني"، كذلك لن يستغني العقلي، "العلماني" عن المقدس. فالتصور العلماني، برغم الديمقراطية، وانفتاح المجال العام، إلا أنه لم يستطع أن يغل يد الرأسمال، فأعيد انتاج المظالم القديمة، في إطار جديد. كما جرى تجفيف الحياة من المعنى، وجرت "تشيئة" الإنسان؛ أي جعله شيئًا، أو كيانًا بلا روح، عن طريق الإعلاء المستمر لقيم الاستهلاك، وعبادة المظهر المادي، ونشر التسطيح العقلي، والتصحر الوجداني. باختصارٍ شديد، ما كان من الممكن للدين أن يستمر في حياة الناس، لولا الحوار الذي لم ينقطع بينه، وبين ما هو "علماني". وما كان من الممكن للعلمانية، أن تستغني كليًا عن قيم الدين. فلقد نشأت المجتمعات البشرية، أول ما نشأت، على التصورات الدينية. ولا يزال الدين يؤطر وعي وخيارات أغلبية البشر.

    2

    الدين والعلمانية وما بعد الحداثة :-

    لقد تنبه علماء الاجتماع، وعلى رأسهم ماكس ڤيبر، منذ القرن التاسع عشر، إلى دور الدين العضوي في المتشكل الاجتماعي البشري. يقول عزمي بشارة، إن ماكس ڤيبر لم يخالف ماركس، في التأكيد على أهمية الاقتصاد، في التحكم بحياة الناس. غير أن دراسة ڤيبر للظروف الاجتماعية والسياسية، التي كانت سائدة في أوروبا، وأمريكا الشمالية، في الفترة ما بين القرن السادس عشر، والقرن الثامن عشر، جعلته يضيف، أن المصالح، التي يسعى الناس لتحقيقها في المجتمع، لا تنحصر في المصالح الاقتصادية، وحدها. فهناك مصالح أخرى تتعلق بالقوة، والسيطرة، والمنزلة. كما أن اعتناق دينٍ معيّنٍ، والانتماء إلى جماعةٍ معينةٍ، قد يعينان على فهم الناس وصوغهم لمصالحهم. يضاف إلى ذلك، أن المنظومة الدينية الثقافية لجماعةٍ معينة، قد يكون لها أثرٌ في أخلاقية الجماعة، بحيث يُسهِّل هذا الأمر، أو يُصعِّب، التكيف مع منظومات اقتصادية بعينها. وبناءً عليه، يمكنني أن أضيف هنا، أن أخلاقية الجماعات السودانية، المستندة على القيم التكافلية، التراحمية، لجوهر الإسلام، وللتصوف، يجعل من الصعب عليها، أن تقبل، أو تستسيغ الرأسمالية المتوحشة، التي أتي بها اسلاميو السودان، وفرضوها على البلاد بالاستبداد، المستند على دعاوى دينية. فالدين، في بعض تجلياته، يمكن أن يمثل، وقد مثل بالفعل، في بعض منعطفات التاريخ، قوةً جماهيريةً رافضة للظلم، وساندة للعدل والمساواة. كما أنه يمثل أقوى آلية للتعبئة والحشد. وتأتي خطورته، أن طاقته هذه يمكن أن تستخدم للثورة ولتحقيق الحرية والعدالة، أو للعكس. فإذا لم يستخدم هذه الطاقة المستنيرون، سقطت في يد الجهلاء من القادة الشعبويين الاستبداديين.
    لربما أمكن القول، إن فكر حقبة الحداثة، ظل منحصرًا، بصورةٍ عامة، وإلى حدٍّ كبير، في منطقة "المنولوج". فمن ناحيةٍ، أدار النصوصيون الدينيون، منولوجًا طويلاً مع أنفسهم، أيأس الناس من الدين، ومن إمكانية تحقق الحرية، والعدالة، والمساواة الاجتماعية، والاستنارة، والاشباع النفسي والروحي، والجمالي، في إطار المنظومة الدينية. وهو ما فتح الطريق للفكر العلماني العقلاني لكي يسود، بل ولتتطرف بعض جدائله، فتصم الدين، في جملته، بالمرحلية.
    أما الفكر العلماني، الذي أمسك بالدفة، منذ عصر الأنوار، فإنه، أدار، كما فعل دعاة الدين، منولوجًا، جديدًا، مع نفسه، ولكن في الاتجاه المعاكس. قادت "ثورة العقل" الحداثية، إلى تشكيل صورة للوجود وللحياة ظن العلمانيون الأقحاح أنها صورة "تقدمية" progressive. غير أن هذه الصورة، رغم إعلاء أهلها لها، وجدها القطاع الأعرض من الناس، من الناحية العلمية، متسمةً بالبؤس، والفقر المعنوي. فرغم دعاوى التحرر والتقدمية، التي جاءت بها، فإن الإطار العقلاني، الجاف، الذي صنعته الوضعية، لم يتعد في تعريفه للإنسان، من الناحية العملية الواقعية، أكثر من كونه كائنًا منتجًا ومستهلكًا. ويمكن القول، بصورة عمومية، إن المحاولة، اليوم، إنما تنحصر في الحفر والتنقيب في المنطقة الواقعة بين هذين النقيضين. أي؛ توظيف العاطفة الدينية لتحقيق قيم الحرية والعدالة والمساواة، وتوظيف العقل في الوقوف الصلب ضد الاستبداد والكهنوت والإرهاب الديني، وفرض الطهرانية المظهرية الكاذبة.
    ما من شك، أن هناك اتجاهًا متناميًا، لتسييل المفاهيم، ومنها مفهوم "ديني" و"علماني"، بعد فترةٍ جمودٍ، اكتنفت دلالاتهما، وحصرتهما في خانة التعارض المطلق، خاصةً، في الاستخدامات الفكرية والسياسية، في الواقع العربي المعاصر. فقد أخذت تنشأ، على النطاق الكوكبي، تياراتٌ جديدةٌ، تحت تأثير أفكار ما بعد الحداثة. وأخذت، هذه التيارات، تتناول إشكالية "العلمانية" و"الدين"، بعيدًا عن أطر الثنائيات القديمة، المتعارضة، التي طالما حبست كثيرًا من رؤى حقبة الحداثة، في قمقم الجمود.
    لم تعد التيارات الأجد في الفكر الغربي، تقبل فكرة الأضدادdichotomies ، التي تسير في خطوطٍ متوازيةٍ، لا تلتقي؛ أو قل لا تتداخل، أو تتعايش، وإنما تتعاقب فقط. تتجذر فكرة التعارض الدائم هذه، في ثنائية الأطر المعرفية، لفكر الحداثة. يقول هيوستن سميث: "منذ أن اختار ديكارت أن يمخر بعيدًا عن الذات، أو النفس المؤسطرة؛ أي، عندما اختار أن يبتعد بتلك النفس عن بقية العالم، انغرست الثنائية في تراب الأبستمولوجيا الحديثة، وهكذا بقيت في مكانها ذاك. فقصة الفلسفة الغربية برمتها، في مرحلتها الحداثية، يمكننا أن نرويها، اليوم، بوصفها بحثًا، مستمرًا، عن جسر يربط بين العقل، وبيئته المحيطة، وبين الذات والموضوع، وهي ذات النطاقات، التي سبق أن باعد بينها ديكارت".
    أما في إطار الفكر التجديدي، في الدين الإسلامي، فقد أخذ مفهوم المزاوجة بين العَلمانية، والدين في التبلور. فالعلمانية التي تعني، التركيز على تحسين حياة الإنسان في هذا العالم، الذي نعيش فيه، بناء على التراكم المعرفي والخبرات التي أنجزتها البشرية، والابتعاد عن إدارة شؤون الناس بالنصوص المقدسة، وحدها، ودون موضعةٍ لدلالاتها في سياق الراهن، أخذت تلقى اعتبارها الموضوعي بين أهل التفكير الديني، الذين يرون أن الدين لا يمكن أن ينفصل عن حياة الناس، ولكن عليه أن يفهم حاجاتهم المتجددة، ويستجيب لها.
    فالواقع الذي، يمكن أن نقول، من منظور سوسيولوجي، إنه يجسد "العلمانية"، يعمل من خلال انبثاق، واندياح طاقاته، وحاجاته المتجددة، في الواقع الاجتماعي، في مختلف الثقافات، على دفع الدين من أفق أدنى، إلى أفق أعلى. والعكس، بالعكس؛ فإن ما يقوم به الدين، حين تتدنى تأويلاته، ويزداد ضيقه بحيوية الواقع، يصبح مدفوعًا بقوة، بتحديات هذا الواقع إلى مواجهة خياريْ: إما أن يتسع، أو أن يخرج كليّةً من الصورة، وهو ما يضطره لطرح نفسه في صورة جديدة.
    عبر هذه الجدلية، حدثت الثورة على الكنيسة، في أوروبا. كما حدثت الثورة على المَلَكية، بوصفها مبنيةً على حقٍّ إلهي مقدس، للأسر الحاكمة، في الحكم. وعبر هذه الجدلية، خرجت البروتستانتية من رحم المسيحية؛ الكاثوليكية، كما أشار روبرت كولز. وهكذا خرجت الثورة الفرنسية، ووُلدت الجمهورية. فحين تضيق أنماط التدين على جسد الحياة النامي، يتمزق ثوب التدين، ويبتعد عن مركز السيطرة، والتوجيه المباشر، وينزوي في الخلفية. ويضطر هذا الوضع نمط التدين السائد، إلى توسيع ثوبه، وتجديده، والعودة، من جديد، لمواجهة الواقع، ولكن، في صورةٍ جديدة.
    لم نكن نحن في السودان بعيدين عن الحد القاطع للفكر البشري، وهو يستشرف مجال المزاوجة الذكية بين بنيتي الدين والعلمانية. فقد كتب الأستاذ محمود محمد طه، منذ نصف قرن، عن جدلية الواقع والدين، من منظورٍ متسقٍ مع علم الاجتماع، ومع ما استجد لاحقًا في تيارات ما بعد الحداثة. جاء في أحد نصوص الأستاذ محمود محمد طه عن "فكرة الدين"، ما يلي:
    هذه الفكرة الواحدة، نبتت في الأرض، كما نبتت الحياة بين الماء والطين، وظلت متجاذبة بين أسباب السماء وأسباب الأرض. وكلما ألمّت بها أسباب السماء، رفعت قمّتَها. ثم إذا ألمت بها أسباب الأرض، أخذت قمتها تتطامن نحو القاعدة، حتى تطمئن. فتتسع القاعدة، وتنحط القمة. واتساع القاعدة هذا، إنما هو استعداد لارتفاع القمة، إلى قمةٍ جديدة، أعلى من سابقتها، عند إلمامة أسباب السماء المستأنفة. وإلمامة السماء في الأوج، نسميها زمن بعثة، وإلمامة الأرض في الحضيض، نسميها زمن فترة. وهكذا ظلت هذه الفكرة الكبيرة، تسير في مراقي الاكتمال، كما تسير الموجة، بين قمةٍ وقاعدة. وكل قمةٍ أعلى من سابقتها، وكل قاعدةٍ أوسع من سابقتها، إلى أن التحقت الأرض بأسباب السماء، أو كادت .
    فاتساع القاعدة، وهي مجمل أحوال الناس التي يشيدونها بوسائلهم، متخطين في منعطفات كثيرة منها، حدود بعض تشريعات الدين، وموجهاته، بعد أن ضاقت، يمثل في نظر الأستاذ محمود، تهيئة للمسرح، تمكِّن الدين من العودة، ليخاطب الواقع، في مستوىً جديد. بعبارةٍ أخرى، إن ابتعاد الدين، تحت ضغط اتساع قاعدة الحياة، الذي ينتج منه خروجها عن قوالبه، هو الذي يهيئ المجال للدين للعودة، ولكن في صورة أرقى من سابقتها. ولذلك، فإن الدين الذي يغيب عن المسرح، ثم لا يلبث أن يعود إليه، ليغيب مرة أخرى، لا يكون هو النصوص القابضة الحاكمة، المتسمة بانغلاق النهايات. لأن هذه النصوص الحاكمة، هي التي سبق أن ضاقت، عمليًا، فاضطرت حيوات الناس، المتطورة دومًا، لكي تنفلت عن قبضها. فالدين، حين يعود، لا يعود بنفس الصورة التي كان عليها قبل أن يغيب عن حياة الناس. وينبغي أن نفهم كلمة "دين" هنا على غير المعنى التاريخي الذي ارتبطت به دلالاته في أذهاننا. فالدين هو "المعنى"، والمادية هي "اللامعنى".
    جاءت كل الديانات الكتابية، التي تعاقبت على مسرح الحياة، بروح الدين، ولكنها جاءت في كل مرحلة بتشاريع متفاوتة، من حيث القرب من جوهر لدين. وجوهر الدين هو ما لن تنفلت الحياة من قبضته، أبدًا. فروح الدين في القمة، هي المثال الأعلى للقيم الإنسانية، المتمثل في، الحرية، والعدل، والمساواة، وسائر الأحلام البشرية الكبيرة، التي ظلت منتظرةً عبر حقب التاريخ. وتحكي هذا المفهوم، الآية القرآنية، التي تقول: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا، وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ". فإقامة الدين وعدم التفرق فيه، تعني إقامة روحه، وليس تشريعاته المرتبطة بقيود ظرفية تاريخيه. فرغم أن تشريعات كل من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى تشريعات مختلفة، إلا أنهم جميعًا يشتركون في "روح الدين". فروح الدين هي ما أمروا بألا يتفرقوا فيها. أما من حيث التشريعات، فهم متفرقون فيها أصلا، بحكم اختلاف أزمنتهم.
    يعكس الدين في حقيقته، المثال. وفي مستوى المثال، لا تختلف الفلسفة، أو علم الاجتماع، مع الدين. أما ما يتقيد من الدين في حياة الناس، فهو يقع في دائرة أنماط التدين. فهو لا يعكس، بالضرورة، "روح الدين، ذاتها، وإن استلهم بعضها، وجسدها في الواقع. تتعارض التشريعات مع "روح الدين"، في حالات الإصرار على التفسيرات الحرفية الجامدة للنصوص. ومن ذلك، على سبيل المثال، التمسك الآن بحقوق المرأة المرحلية، التي منحتها لها الشريعة الإسلامية في القرن السابع الميلادي. وكذلك الإصرار على حكم الردة، أو الاصرار على قتل تارك الصلاة إن هو أنكر وجوبها أصلا، أو كسل عن أدائها. وكذلك، الاصرار على تشريع الرق، واتخاذ الإماء. فأنماط التدين، تتغير بتغير الأزمنة، وفي ذلك، فهي يمكن أن تتوافق مع العلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية، أو تتعارض معها. وحين تتعارض معها وجب أن نتفكر، ولا ننسب قصور إدراكنا، وعجزنا عن فهم المقاصد، إلى جوهر الدين.
    ظلت "روح الدين"، تأتي على أقساطٍ مع النصوص الحاكمة، في كل عودة من عودات الدين، بقدر ما يطيق الناس. وقول الأستاذ محمود محمد طه، إن الأرض قد التحقت بأسباب السماء، أو كادت، مما ورد في النص الذي أثبته له، في الفقرات السابقة، تعني، مقروءةً مع كثير من إشاراته الأخرى، المبثوثة في كتاباته، أن الفرد البشري قد أصبح قادرًا على "التلقي الكفاحي"، من الله. وتحمل عبارة "التلقي الكفاحي" من الايحاءات الصوفية التاريخية، ما قد يجعل بعض العقول المعاصرة، تراها تعبيرًا صوفيًا، مغموسًاً في إدام الغنوص والابهام. لكن ما تعنيه، حقيقيةً، هو أن عهود الكهنوت الديني، قد أزفت نهايتها. فقد ارتقت العلوم، وارتقت الفهوم، وأصبحنا نستقبل شروق شموس الأفراد الراشدين، القادرين على إدارة معارك إنزال المثال إلى أرض الواقع، وفق نهج تعاقدي سلمي، يحتضن الجميع، بمختلف مشاربهم. فالنظرة الثاقبة تقول، ليس هناك فكر ديني، وفكر علماني، منفصلين، تمامًا. هناك فكر إنساني ما انفك يهفو، لكي يصبح جديلة واحدة، مجدولة من مختلف الشعيرات. وقد ظل هذا التوق للوحدة والاتساق والمؤالفة، ينمو باطراد، خاصة في نهايات القرن الماضي. وقد استوى، هذا الحراك، الآن، على سوقه، أو يكاد. وقد أخذ يُعجب الزُّراع من المبصرين. غير أنه، لا يزال يبعث الدهشة، والعجب، بل والتوجس، وسط من بقوا أسرى للثنائيات القديمة المتعارضة.

    "ما بعد الحداثة" وحقبة الروحانية :-
    من بنية التيارات الفلسفية الناقدة لحقبة الحداثة، انبثق الاتجاه لإعادة الاعتبار للروحانية، من جديد، وربطها، عضويًا، ببنية العقل والنفس البشرية. وقد خرج تيار "الروحانية، في الأصل، من التصورات العلمانية، نفسها، حوالي أواسط النصف الثاني من القرن العشرين. يعد الناقدون لبرادايم الحداثة، تجفيف الحداثة للروحانية في عالم اليوم، مجرد انقلابٍ متعجلٍ على سيرورة بالغة الطول. كما يرونه، انقلابًا غير متسق مع البنية الكلية، لتلك السيرورة الطويلة، التي امتدت منذ فجر الخليقة، حتى العصور الحديثة. يقول موريس بورمان، "إن التاريخ الإنساني ظل، ولأكثر من 99% منه، تاريخًا مروحنًا، رأى الإنسان نفسه فيه جزءًا متكاملاً معه. وقد أحدث العكس الكلي لهذا التصور، والذي حدث في الأربعمائة سنة الأخيرة، تحطيمًا لاستمرارية التجربة البشرية، ولتكاملية البناء النفسي للإنسان".
    ويرى زوهار، ومارشال، في بحثهما الشيق، عن "الذكاء الروحي"، أن الفلسفة التي قامت على رؤية نيوتن للعالم، التي اتسمت بالذرية، atomism، أو قل، "الفردانية الاجتماعية"، أو "التذرية الاجتماعية" . كما اتسمت رؤسة نيوتن، أيضًا، بالحتمية، determinism، والهدفية، objectivism، التي ولّدت وَهْمًا مفاده، أن كل شيء في العالم الطبيعي، يمكن التنبؤ به، كما يمكن، من ثَمَّ، التحكم به. فالثورة العلمية التي أتى بها اسحق نيوتن ورصفاؤه، لم تقتصر على وضع الأساس للثورة العلمية، التي قادت للنهضة الصناعية، وحسب، وإنما تعدت ذلك، بأن جلبت معها تأثيراتٍ سلبيةٍ، تمثلت في التآكل العميق للعقائد الدينية التقليدية، والرؤى الفلسفية التي شكلت الأساس للمجتمعات البشرية، حتى ذلك الوقت. ورغم أن زوهار، ومارشال، يؤكدان على أن التطور التقني، الذي قام على فيزياء نيوتن، وتصوره للعالم، قد جلب معه بركاتٍ كثيراتٍ، إلا أنهما يقولان إنه جلب معه، أيضًا، لعناتٍ كثيراتٍ. فقد اقتلعت الثورة التقنية، الناسَ من أرضهم في الأرياف، ودفعت بهم إلى المدن الكبيرة. كما أنها أربكت حركة نمو المجتمعات، بما قادت إليه من إضعاف للروابط الأسرية، وإزاحة للتقاليد الموروثة، والحرف اليدوية. لقد تم اقتلاع المعاني المصاحبة لأنماط العيش القديمة، من التربة التي نمت فيها. ثم جاء، بعد ذلك، الخطاب الفلسفي الذي قام على النظرة النيوتونية للعالم، ليكمل الأمر، باقتلاع روح الإنسان نفسها.
    لكن من الضروري أن نقول إن الثورة العلمية التي دشنتها فكرة نيوتن عن العالم، قد استتبعت ثورة فلسفيةً، ووعيًا سياسيًا نضاليًا، بهما تخلصت أوروبا من قبضة الكنيسة، والكهنوت. وانطلقت، من ثم، البرجوازية الأوروبية، في مشوار التحرير، الذي قام على التأكيد على حرية الضمير، وعلى التأسيس للحقوق الأساسية، وترسيخ التجربة الديمقراطية في ممارسة الحكم. لقد كانت تلك الصورة الجديدة للعالم، التي رسمها نيوتن، ضرورية جدًا، ليصبح التحرير ممكنًا. إذ لولاها، ما تجرأ الأوربيون، ولا قدروا، على مناهضة سلطة الكنيسة، التي ظلت تحرس بالعصا الغليظة، صورةً راكدةً للعالم، وللمجتمع، عاشت قرونًا طويلة .


    1/ يورغن هبرماس، وجوزيف راتسنغز، جدلية العلمنة والعقل والدين، (تعريب: حميد لشهب)، جداول للنشر والتوزيع، الكويت، 2013، ص 60
    2/ المصدر السابق ، ص ص 62 -63
    3/ كمال عبد اللطيف، التفكير في العلمانية: إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ج م ع، 2007، ص 12.
    4 Abdullahi A. An-Na’im, Islam and the Secular State, Harvard University Press, Cambridge, MA, USA and London, UK, 2009, p. 1.
    5/ يرى بعض الفقهاء ليس على الزوج تحمل تكاليف علاج زوجته، إن هي مرضت. فأهلها هم الذين يحب أن يتحملوا تكاليف علاجها. كما اختلفوا في أجر القابلة؛ هل هو على الزوج، أم على الزوجة.
    6/ في حوار لروبرت كولز، عالم النفس الأمريكي، المشتغل بقضايا الروحانية، مع دوروثي داي، قالت دوروثي داي، لكولز: أنت تقلل من شأن الشك كجزء ثابت في بنية الإيمان نفسها، وتلك حالة تنطبق على كل قرن من القرون. أنت ترد السبب في نشوء العلمانية، بشكل رئيس، إلى العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. أنا لا أنكر أن للعلوم الطبيعية سلطة تدعم العلمانية اليوم. لكن، بحق السماء، لقد كان العالم العلماني موجودًا على الدوام، هنا، أو هناك. تلك هي القصة الكبيرة للعهد الجديد مع العهد القديم، وتلك، أيضًا، هي قصة البروتستانتية مع الكاثوليكية. أنت تنظر إلى جاليليو ونيوتن وأينشتاين وفرويد بوصفهم المدافع الكبيرة التي ظلت تدك معاقل الإيمان الديني، وتقضي على الروابط الدينية بين بني البشر. في نظري أن هؤلاء الناس ليسوا سوى جزء من قصة طويلة جدًا. راجع:
    Robert Coles, The secular mind, Princeton University Press, Princeton, NJ, USA, (1999), p 40.

    7/ عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، (ج1)، المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، بيروت، 213، ص 290.
    8 ِ Alexander M. Sidorkin, (1999). Beyond discourse: education the self and dialogue, State University of New York Press, New York, USA, 2001, p. 38.
    9 Huston Smith, Beyond the postmodern mind, Quest Books, Wheaton, IL, USA, (Ed 3) (2003), p. 209.
    10/ محمود محمد طه، الرسالة الثانية من الإسلام، (ط 4)، مطبعة مصر، سودان، الخرطوم، السودان، 1969 ص. 119 ـ 120.
    11/ الشورى، آية 13.
    12 Morris Berman, The reenchantment of the world, Bantam Books, New York, NY, USA, (1984), p. 23
    13/ تعبير "التذرية" قصدت به مقابلة كلمة atomism، أي، جعل الأفراد ذرات تلف في مدارات فردية تضعف وحدة الضمير الجمعي وتمثلاته في التكاتف، والتعاطف، والتضامن الإنساني الواسع.
    14 Zohar, D., and Marshall, I. SQ: Connecting with our spiritual intelligence, Bloomsbury, New York, USA. 2000, p26,
    15 Ibd.

    بقلم: د. النور حمد
    [email protected]
                  

03-04-2017, 06:25 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48494

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ورقتي في لقاء نيروبي : علمانية الدولة أم د� (Re: زهير عثمان حمد)

    سلام يا زهير
    والتحية للأخ النور

    قرأتها قبل يومين.. تحليل ممتاز.

    ياسر
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de