درجت على كتابة ذكريات و أحداث وقعت في شهر رمضان الكريم على الأقل في العامين الماضيين و في كل عام تكون خطتي أن اكتب مقالات بعدد أيام الصيام إلا أن الفشل كان حليفي على الدوام و ذلك لانشغالي بأمور أخرى من عمل و بحث و سفر إلى غير ذلك و في الحقيقة لم انجح و لا مرة واحدة في كتابة مقالات عن ذكريات الشهر الكريم تجاوزت عدد أصابع اليدين.. لكن بإذن الله تعالى هذا العام سوف أحاول جاهدا تحقيق ذلك الهدف لما في تلك الذكريات و الأحداث من دروس و عبر ينبغي الوقوف عندها و التأمل في مجرياتها و لنا أن نقف عندها و نستفيد من حياة رجال و نساء كتبوا سيرتهم بحروف من ذهب و كانوا أنموذجا ممتازا لا يقارن للإنسان السوداني البسيط ..!! العادات و السلوك و المعاملة بين الناس في السودان في شهر رمضان عند أهل السودان بلا منازع تضع أهل السودان في مقدمة الأمم من حيث الجود.. و الكرم.. و العطاء و السخاء.. و التكافل.. و عندما أقول أهل السودان فأنى اعني أهل السودان جميعهم فلا افرق بين المسلمين فقط منهم المسيحيين أو اللادينى .. و معظم نساء السودان يقمن بإعداد مستلزمات هذا الشهر الكريم من طعام و مشروبات و فرش و يتعاون النساء فيما بينهن في هذا الأمر.. عاش أهل السودان بمختلف قبائلهم و ألسنتهم و معتقدهم دون حساسية و بدون تفرقة و أجمل هذه الصور الاجتماعية الإنسانية النادرة ترتسم في لوحة بهية و زاهية في شهر رمضان .. !! "اوطو" هذا الرجل البسيط و الذي لا يتحدث من العربية إلا بضع كلمات.. عرفته والدتي رحمها الله عن طريق المرأة التي انتقلت لتكسن جوارنا في بيت أختي التي انتقلت للعيش مع زوجها في مدينة الرنك بشمال أعالي النيل بينما نحن كنا في مدينة القيقر .. و كانت تلك السيدة من قبيلة الشلك النيلية المعروفة و قبيلة الشلك من أكثر القبائل النيلية التي اختلطت بالغير .. القبائل النيلية الأخرى و العربية .. و تجد أفراد تلك القلبية يسكنون و يعيشون في أنحاء كثيرة من ولاية شمال أعالي التي تقع في الحدود الشمالية لدولة جنوب السودان حاليا و بحدود مشتركة مع ولاية النيل الأبيض التي تقع في دولة السودان و خلق هذا الالتصاق و تعايش تزاوجا اختلاطا كبيرا بين كثير من القبائل السودانية فى تلك المنطقة منذ زمن بعيد ... !! و تلك السيدة كانت ربة منزل متفرغة لتربية أولادها .. بعيد انتقالهم إلى جوارنا بأيام علمت والدتي رحمها الله بشأن خالها الذي يسكن معهم و لا يعمل .. و طلبت منها والدتي أن تسأله.. إن كان يريد أن يعمل و ذلك أن يقوم برعاية الأبقار التي كانت يمتلكها والدي.. أن يقوم بالاعتناء بزريبة الأبقار و التي أمام البيت مباشرة .. فصادف كلام والدتي هوا في نفسها و رحب بالفكرة و بعد حين أتت بالخال إلى بيتنا و أفهمته المطلوب منه مقابل راتب شهري قدره كذا فوافق .. و في ذلك الوقت كنت أنا و شقيقي صغار السن نشهد الموقف بشغف و لهفة و كنا نتابع تطورات الأحداث إلى أن و صلنا إلى المحطة الأخيرة و كنا حضورا نستمع إلى تفاصيل الاتفاق الذي سرعان ما علق إلى أن يأتي والدي .. رحمه الله .. من العمل و يقوم بإجازته و الموافقة النهائية عليه ...!! كان اوطو بسيطا جدا و طيب القلب و سمحا في معاملته و كان يقوم بعمله أحسن قيام و دوما ما كنا نبعث معه إلى كثير من المهام خارج المنزل لأنه كان مكان ثقة .. و أما اللغة المشتركة بيننا كانت عبارة عن كلمات من اللغة العربية البسيطة و المكسرة توصل الرسالة و ما يراد القيام به و من جانبي و آخى كنا نستخدم مثل كلماته إضافة إلى كلمات متفرقة من لغة الشلك ... !! سرعان ما طل شهر رمضان على الباب و كعادة أهل السودان .. بدأت النساء في القيقر تحضير "الحلو مر" و "الرقاق" و غيرهما فأتت تلك السيدة إلى بيتنا لتنسق مع والدتي التحضير إلى إعداد أو "عواسة" "الحلو مر" المشروب السوداني الذي يعد خصيصا لصيام رمضان .. فلم تسأل والدتى تلك الجارة عن الدين الذي تعتنق و لم تهتم بذلك البتة و عاملتها باعتبارها إحدى بناتها فحسب و فرد من الأسرة .. و لابد أن أشير إلى أن الدين يوما عاملا أو عنصرا يحدد كيفية التعامل بين الجيران ... !! وبحضور الشهر الكريم اتضح لنا جليا أن جارتنا و زوجها مسلمين يصومان رمضان و ذلك لأنه في أول يوم من الصيام خرجت من منزلهما صينية كبيرة فيها ما حل و طاب من المشروبات الرمضانية اللذيذة متجه نحو "الضراء" .. هكذا تخيل إلى أذهاننا .. ومثلما كانت والدتي.. لم يأبه آباؤنا و سكان المنطقة في تلك البقاع كثيرا .. و لله الحمد و المنة.. أن قد جلب آباؤنا على عدم التدخل في شئون الغير.. فلم يهتموا كثيرا بمعتقد الغير.. قد ينظر البعض إلى ذلك الأمر بأنه نوع من السلبية في تقديم الدعوة إلى هؤلاء للدخول في الإسلام.. و لكن في كثير أنحاء الدنيا كانت الدعوة بالقدوة ... !! و كالأطفال كنا نتوق إلى الذهاب إلى مكان الإفطار " الضراء" و الذي غالبا ما يكون الضراء في وسط الشارع و كنا نحرص على استطعام أكل جارتنا الجديدة تلك فوجدناه لذيذا و فريدا في طعمه و مذاقه ...!! كان اوطو يحمل إلى الضراء صينيتنا إلى الضراء و ذلك لأننا كنا صغارا و لا نستطيع حملها و يكون والدي في شغل بمهام أخرى .. كان اوطو حينما يصل إلى الضراء يضع الصينية بحرص شديد حتى لا تميل فتخرب الدنيا .. و بعد ان يضعها لا يبرح اوطو ذلك المكان و يظل حبيس مكانه إلى أن يؤذن للمغرب و يناول اوطو الإفطار مع الصائمين هاشا باشا .. و كان ينتظر ليعيد الصينية من حيث أتت كاملة العدد .. و نحن في معيته ... !! لم أرى اوطو يشرب أو يأكل يوما أثناء نهار رمضان قط .. بالرغم انه ليست بالديني فلا هو مسلم و لا هو مسيحي و لكنه كان بموجب الفطرة يحترم مشاعر الآخرين فيحرص أن يصوم أو على الأقل لا يأكل أمام الصائمين فكان اوطو .. رجل طيب القلب .. و عفيف إلى درجة كبيرة .. و يحمل فى داخله قلبا كبيرا .. و احترام للآخرين ... !!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة