أمسية، تبدو عبر الأزمنة كأنها لم تحدث في هذا العالم. كان الزمان غير الزمان، والمكان غير المكان، أحدهم يغني، بين الريد والهوى، عشنا أيامنا سوا، ما قاسينا النوى، ما احلاك يا هوى، الهم راح وانطوى،
الهم راح وانطوى فقط في الأغنية، لكنه كان بين الناس كائن يمشي على ساقيه.
كان غبار ضوء القمر الذائب في رطوبة الحواشات يغرق ذلك الليل البعيد من يوليو العام 1997.
رائحة الجروف ، رائحة اللوبياء، رائحة نوار السنط، ورائحة غبار الأزمنة يتصاعد في قيظ الساعة الثانية بعد الظهر، يحيل كل شئ حتى التذكارات الى هشيم ..
أكاد لا أصدق أنه غاب عنا، محمود، وهل يغيب قمر مثله، ضوءه سيبقى ملايين السنوات الضوئية يضئ الدرب الذي ضاع منا في (موية) الانقاذ.
قبل سنوات كنا نعمل في مدرسة ثانوية شعبية، وكان المدير هو الاستاذ طه محجوب الحاج. كان اسمه وحده كفيلا بإعطاء المدرسة شهرة مدرسة مُعارِضة ، كانت هناك نقابات معارِضة وأحزاب معارِضة، لكن ربما كانت تلك أول مدرسة معارِضة..
قلت للنور ونحن نجلس في المسيد: حسين دة ليه مشى عرّس فلانة بعد ما خطب الزولة دي كم سنة؟!
تمطّى فوق حصير السعف وقال: شعر بيها شخصيتها قوية، وهو عاوز ليه جنازة، يرفعوها هو وأهله يوم العرس في عنقريب ويمرقوا على بيتهم!
قال أحد زملائنا للأستاذ طه حين وفدت الى المدرسة، مدرّسة جديدة لم يعرف أحد شيئا عن الجهة التي أرسلتها.
قال أحد زملائنا: الزولة دي يكون دايرين يزرعوها وسطنا عشان يلقطوا الاخبار!.
لم يكن هناك أخبار ولا يحزنون، الحال من حال البلد في التسعينات، والالفية الجديدة وكل قرون الاخوان المسلمين والعسكر في كل مكان. الجدب والموت والدمار ..
قال استاذ طه: والله زرعوها في عطرون!
سيفهم هذه العبارة، المدرسون والمزارعون والمهندسون المدنيون وحتى العطالى، بشرط أن يكونوا عاشوا لفترة من الزمان في شمال السودان ويعرفون الفرق بين الأرض العطرون والارض ( الما عطرون) !!
أها قلت ليه: هسع بقت مدرّسة، وماشاءالله بيقولو عليها شاطرة، لكن أهو لسة ما لقت ولد الحلال!
ضحك النور وسكت. شعرت أن ضحكته كانت رد الفعل الطبيعي الوحيد على ما قلت، رغم أنني لم افهم العلاقة جيدا بين ما قلت وبين ضحكته.
قلت له لماذا ضحكت! قال لي ضحكت على حكاية ود الحلال دي! اتذكرت راجل كبير كان بيشتكي ان اولاده ما شغالين بيه اليوم كله ينادي زول يملأ ليه الابريق ولا يسقيه موية ما في زول شغال بيه. الناس كلها انشغلت في زمن الانقاذ، الخلق جارية جري الوحوش والكيزان حاشوا الرزق كله من برة برة ودوه ماليزيا وعملوا الباقي عمارات وعرسوا النسوان مثني ورباع! الدين دة
ما يعرفوا الكيزان الا في النكاح وأما بنعمة ربك فحدّث! أموال المساكين والفقراء بقت بقدرة قادر (نعمة ربك)
صدعوا راسنا: نأكل مما نزرعن ونلبس مما نصنع، قطّعنا فاتورة القمح، تاني ما حستورد حنصدّر! ووكت صدّروا، صدذروا الجنجويد!
أها الراجل وكت زهج، قال يا اخوانا البلد دي ما فيها ولد حلال يساعد الواحد، واحد ماري قال ليه : البلد دي كان فيها ولد حلال واحد، إغترب، مرقها في السعودية!!
بيني وبينه حكاية .. أصلو ما ليها نهاية
كان طفلا صغيرا، اسمه جدو، وكان يغني بفن وموهبة، يقلد محمود، كان صغيرا جدا حتى أننا بعد استراحة الفواصل ، كنا نذهب لاحضاره من بين الأطفال الجالسين في المقدمة، كان الاطفال سعداء بوجوده بينهم، وفي احدى الاستراحات احضرناه من الخارج فقد خرجوا للعب شليل في ضوء القمر في الفاصل، رغم ان الحفلة كانت مدورة في الداخل. وكان المذيع الداخلي يستخدم
نفس عباراته التقليدية، دون أن ينتبه للزمن، فحتى حين أشرقت شمس اليوم التالي (والحفلة مدورة) كان المذيع الداخلي مصرا على أنّ الليل: ما زال طفلا يحبو!
انه الفنان الذي قضى على اسطورة عشاء الفنانين، مثلما قضت الانقاذ على الاخضر واليابس. حين سألناه قبل إحضار العشاء. عن وجبته المفضلة، وطبعا الناس اعتادت على الفنان الذي يعاقر الخمر واللحوم. جدو كان يعاقر اللبن طلب فتة لبن! فنانين آخر زمن!
أصيب بعض اعضاء اللجنة المنظمة بالصدمة لبن! يا اخوانا انتوا متأكدين دة فنان ولا كديس!
غنى مثلما لم يغني أحد من قبل في القرية. حتى ابتهج الناس جميعا، حتى الكيزان، تركوا السرقة والاستهبال والرغبة في التسلط على المساكين، لليلة واحدة فقط وابتهجوا مثل البشر..
كنا نجلس، عدد من المدرسين، في أحد اصابيح النسيان، في فناء المدرسة، في الشمس فقد كان الوقت شتاء، وفي ساعات الضحى يسود الصمت في الشتاء، لا تسمع شيئا ولا حتىى صوت الحياة، التي يبدو أنها تتوقف احتراما لصمت الحياة في الشتاء، صمت تولد الحياة من ضجيجه، ما أن ينتهي موسم الشتاء، حتى تبدأ ساقية الحياة تمتلئ وتدور من جديد رغم أن دورانها يظل يتراخى بمرور السنوات وكلما دخلت إنقاذ الجدب والجوع والدمار في العظم! .
كانت المدرّسة التي زرعوها في العطرون لم تنبت وتعمّر كثيرا، جفت مثل زراعة العطرون وغادرت الى المجهول. ربما وجدت ابن الحلال الذي اغترب، بعد كمية الكشات التي حاقت بالعمالة الوافدة. ولأنه ابن حلال وفي حاله، فسيفشل في توفيق أوضاعه وسيعود مع العائدين. ونكسب نحن ابن حلال واحد ويخسر كفيله، مقيم ابن حلال .
حين إقتحم فجأة صمت الحياة الذي يشيع في النفس وهنا وحزنا غريبا مثل الرغبة في الحياة والموت في نفس الوقت، إقتحم المكان شخص ملتح، توقعنا ظهوره الشيطاني بعد أن سمعنا في البداية صوت محرك سيارة فاخرة من النوع الذي يحبه أهل الدين والدنيا. كان موظفا في جهة حكومية تسمى النشاط الطلابي وظيفتها تجنيد الطلاب لصالح التنظيم الحاكم والتجسس على المؤسسات
التعليمية بدعوى مساعدتها. المهم هبط مثل القدر وتساءل بعد السلام عليكم،
التي كانت هي كل رأسماله من التدين في هذا العالم : أين المدير؟.
كان مزاجنا هادئا بسبب صمت الحياة وهدوئها في الشتاء ولم نشأ أن نسمح لكوز عابر مثل غبار أمشير، أن يخرجنا من وقار صمت تلك الحياة وجمالها الذي يتسرب الى الروح، رغم عفن السلطة وغبارها الاعصاري في الخارج..
أشرت له لاستاذ طه، الذي لم يعره ولا حتى إلتفاته مجاملة واحدة. مد لاستاذ طه بورقة وقلم، وكأننا في مزرعة لتربية الخيول وليس مدرسة اساسها العلم ولا يوجد علم بدون ورق وقلم. من معجزات الانقاذ ان ذلك ممكن، مؤسسات تعليمية، لا يوجد فيها ورق ولا قلم ولا علم ولا يحزنون.
قال للمدير: بالله اكتب لي اسم المدرسين الغير مدربين!
إدعى المدير عدم الفهم وقال: يعني ايه ما مدربين! إنت يمكن دخلت غلط دي مدرسة ما قوات الشغب المسلحة (نطق الشغب متعمدا بدلا من الشعب الفضل)!
شرح الملتحي: في الدفاع الشعبي.
كتب استاذ طه اسمه في الورقة بخط ضخم: طه محجوب الحاج محمد، غير مدرّب وغير مستعد!
ثم قال للكوز: بالنسبة للبقية يمكنك سؤالهم بنفسك!
قرأ الكوز الكلام ولا أدري لم شعرت أنه حين كادت عيونه تسقط خارج النظارات الطبية، لم يكن يعرف القراءة.
: الكلام دة بيعمل مشاكل يا شيخنا!
نظر استاذ طه حوله لحال الدنيا الواقف صيفا وشتاء، ولا أمل حتى في اية إنقراج، وقال: بالنسبة لي انا ما فارقة معاي، لكن لو بيعمل ليك انت مشاكل وكت تطلع برة المدرسة قطّع الورقة دي وكبها!
أخذ الكوز ورقته بشماله، وخرج لا يلوي على شئ!
عبرت السنوات، ربما اصبح جدو الفنان كبيرا، ان ظل على قيد الحياة في زمن الموت والدمار، وهل لا يزال يتبع خطى قمر زماننا، محمود، محمود الذى بقي خالدا بفنه الاصيل الذي نذر له روحه، محمود الذي كان كبيرا وكان مرفوع الرأس رغم أن الصغار ممن يسمون أنفسهم بالانقاذيين، سلكوا كل سبيل ليسمموا حياته، خوفا منه ومن شعبيته التي أحرزها نتيجة شخصية كريمة
عبقرية، ونزوع للخير وللفن الجميل قل أن يتوفر في بشر، وستعبر مياه كثيرة من تحت الجسر وحتى في الصحاري، وستتغير اشياء كثيرة، يزداد السيئون (الانقاذيين) سوءا، ويزداد الاخيار احسانا. ويظل طه هو طه محجوب الحاج، غير مدرّب وغير مستعد!
وصوت ذاك المغني الصغير ينثال عبر السنوات:العجب حبيبي.. أداني تحية، دموعي سالن والمنام أبى لي!
المنام أبى لي، فما زال الليل طفلا يحبو، رغم تلك الشمس التي إرتفعت في السماء من الصحراء شرق القرية..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة