كما يعلم المختصون في فن الموسيقى والغناء ، أن اللحن أحياناً قد يأتي في مخيلة الملحن بدون نص شعري ، وكثيراً من الإغنيات الناجحة والخالدة لعمالقة من الفنانين طلب ملحنوها من شعراء إنزال الكلام أوالنص الشعري على قالبها اللحني والموسيقى ، فكانت الأكثر بهاءاً والأعلى طلباً وإستماعاً ، يذكرني هذا المنحى الإبداعي ما يطرأ اليوم على الساحة السياسية والإدارية والتقنية من تأخر واضح في إصدار القرار والذي أصبح بالمُطلق تقريباً مرتبط بالحدث ، ليبقى السؤال قائماً حول هل يصنع الحدث القرار أم القرار الذي يؤدي إلى إنبلاج الأحداث ، ففي عالم السياسة هنالك الكثير من القرارات التي جلبت وراءها أحداثاً كبيرة ومؤثرة ، بعضها كان متوقعاً والآخر كان غير ذلك ، فالقرارات المتعلقة بزيادات في الأسعار أورفع الدعم عن السلع الضرورية في الأغلب يتوقع أن تقود إلى أحداث شارعية وثورية توضع لها الإحتياطات ويتم الإستعداد لها على المستوى السياسي والأمني ، وفي هذا المجال فقد قطعت حكومة الإنقاذ شوطاً كبيراً في إعلاء مواهبها تجاه مجابهة تعبيرات الناس عن السخط والإحتجاج عبر أدوات مألوفة تبدأ بالتهديد والإجبار على الإذعان ثم الإعتقال وإستعمال القوة بدعوى إستتباب الأمن والنظام العام ، أما آخر إكتشافاتها وأدواتها الحديثة هو(عدم الإعلان) من حيث الأساس عن الزيادات التي تطرأ على أسعار الضروريات والرفع الجزئي للدعم الحكومي عن قطاعات حيوية كثيرة يأتي في مقدمتها قطاع الدواء والإستشفاء ، وكذلك الرفع المتتالي لنسب الضرائب والجمارك والجبايات المتعددة دون إعلان للقرار المتعلق بذلك ، مما يقضي على حالة (التأهب) الأولية عند المواطن المغلوب على أمره ، حتى يسري ما إستجد تدريجياً دون كابح ولاحدث موازي ، أما ما يُشابه أمر اللحن الذي تسبق ولادته نصه الشعري ، فيبدو في عالم السياسة في صورة أحداث تصنعها الإدارة أوالدولة (للتمهيد) لإصدار قرارات (مُرة) ولا يُتوقع مرورها على الشارع مرور الكرام ، وما جرى قبل عام في موضوع ندرة و أزمة غاز الطعام هي واحدة من أمثلة صناعة الحدث قبل القرار ، لأن المختصين والمتابعين لأزمة غاز الطعام في ذلك الحين أكدوا عبر الدلائل والتصريخات المتضاربة لوزير الطاقة أن تلك الأزمة كانت مُفتعلة والقصد منها إيصال المواطن المغلوب على أمره إلى حالة نفسية تمكنه من السكون والرضا بزيادة في سعر الغاز فاقت الـ 175% من سعره المعلن والمتداول آنذاك ، وما خفي كان أعظم فما يحدث من (دهس) لإنسانية المواطن البسيط في صراعه من أجل الحصول على ضرورياته وحاجاته الحياتية فيه الكثير من الإشارات التي تفيد أن إصرار الدولة على تبني نظرية السوق الحر في السلع الضرورية هو (آلة) مقصودة ومعتمدة لصناعة الحدث قبل القرار للحصول على ما تقدمه (المراوغة) من إستتباب (شكلي) للأمن الشارعي والذي يمثل أمن النظام ، فلا أحد الآن يعلم شيئاً عن الأسعار الصحيحة والمنطقية للضروريات ولا أوزانها ومواصفاتها ودونك أفران الخبز التي تعددت أسعارها وتميزت بعدم الثبات وذلك عبر التعديل في أوزان المنتج ومواصفاته ، يا هؤلاء من القابعين خارج مطحنة الغلابى وآلامهم وآمالهم ، كيف ترمون بالبسطاء من الغُبش وهم الأغلبية في (متاهة) العرض والطلب والجشع الذي أصبح (موهبة) أخلاقية معتادة ومتداولة في عصرنا الموبوء هذا .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة