٭ لم يعد كيان الطريقة التقليدي يلبي متطلبات العصر، لأن رؤى الأسلاف لا تكون حلاً لقضايا الحاضر والواقع المتجدد، كانت الهوة تتسع باستمرار بين تطلعات الصوفية وواقعهم، بين التعاليم الموروثة وتفجر المعارف مع شروق شمس الثورة الصناعية، تدافع ميكانيزم التطور، واحتدم الصراع بين القديم والجديد، فوجد بعض الرواد في الدروشة والإنزواء رضاءهم النفسي، وتشققت الطرق طرقاً وبدا الصوفية أقزاماً بعد أن كانوا طلائع، فكان تمسكهم التقليدي بالطريقة نوعاً من إدمان الطفولة، والرضاعة من ثدي ضامر، أدخل الغزو السودان في واقع المتغيرات الدولية المتسارعة التي استبدلت الأدوات العتيقة بوسائل عصرية نوعاً ما، ودخلت الآلة في الحياة كوسيلة للتواصل والعمران، كأكثر ما تكون إنتشاراً، كسلاح في أيدي الجند، وبالرغم من اعتماد العنف كمفهوم للقوة، إلا أن التركية في مرحلتها تلك كانت انتصاراً للحضارة على التخلف، وانتشالاً للمجتمع من أجواء العزلة. ٭ لم يكن للنخبة خيار أو أداة مقاومة عدا التضرع والإبتهال وطلب النجاة من الخطر القادم بالأحجبة والحروز، كان الواقع التاريخى يتطلب كياناً سياسياً أكثر دقةً وأكثر تنظيماً وأسرع إيقاعاً من نموذج الطريقة، كان عنف التركية وسلاحها الناري هو صوت العصر كأصدق تعبير عن روح الثورة الصناعية، كانت بمثابة القدم المادي في المسيرة، والخطوة اللاحقة بالضرورة لقدم الروح، التباين بين الأتراك والصوفية كان واضحاً، لقد اعتمد الأتراك العنف أداةً لتثبيت دعائم الدولة، بينما بنى الصوفية مجدهم على قاعدة الروحانية. ٭ كان هدف الغزو المباشر هو تحقيق الأهداف الإمبريالية، بأن أُدخل السودان قسراً إلى عالم الرأسمالية دون اكتمال شروط الانتقال، ثم جاءت المهدية قسراً آخر يطلب الرجوع إلى العزلة وإرجاع المارد إلى القمقم واستشراف الغد بتمثل الرؤى السلفية، وكلا الموقفين ينطلق من مغالطة تاريخية، الأمر الذي جر المجتمع السوداني إلى ويلات ودماء، وفتحت المغالطة الباب أمام إحدى السنن الذميمة في التاريخ السوداني، وهي إدعاء الحاكم بأنه المتحدث باسم المجتمع، واعتماده القداسة والعنف وسائل تمكين، وتطميناً لهواجس السياسة المصرية في تأمين الحدود الجنوبية والسيطرة على مياه النيل. ٭ تمددت السلطة التركية في ربوع السودان، وتمركزت إدارتها في الخرطوم، ورسمت خريطة الوطن القومية كحيازة مصرية تتجنب تكالب الاستعمار الأوروبي على الأرض اليباب، لكن الحكم الجديد ــ المصري اسماً والبريطاني حقيقةً ــ كان نظاماً غريباً على أهل السودان، لأنها أول تجربة لهم تحت مظلة الأجنبي، ولا عهد لهم بسحنة الأتراك ولسانهم ونظامهم الإداري، فإن كان السودانيون قد ارتضوا ظلال السلطة الروحية للخلافة؛ فإنهم لم يحتملوا البقاء المباشر في قبضة الاتراك الذين لم يتورعوا في تقديم أنفسهم كغزاة، لم يأتوا لإصلاح دين ولا لرفعة سلطان خلافة، وكان هذا كافياً لإشعال الثورة، إذ أن محمد علي باشا لم يكن يخفي إمبرياليته، كتب إلى ابنه إسماعيل أن مطلوبه من السودان ليس المال، “بل الحصول على عدد كبير من العبيد الذين يصلحون لأعمالنا ويجدرون لقضاء مصالحنا”.. أنظر محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ص 16.. أي أن الخديوي كان قد رتب أولوياته من السودان، لكنه لا يتعفف عن بقية الثروات. akhirlahza
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة