حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي تأشيري

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-30-2024, 10:39 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2019م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-06-2019, 06:20 PM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي تأشيري

    06:20 PM August, 06 2019

    سودانيز اون لاين
    حسين أحمد حسين-UK
    مكتبتى
    رابط مختصر



    حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي تأشيري

    تقديم

    تُعرَّف الدولة بأنَّها "حزمة الإجرآءات القانونية والمؤسسية المعبِرة عن مجتمع بعينه، على بقعة أرض بعينها، بالكيفية التى تُكسبها اعترافاً دولياً وسيادةً على تلك البقعة من الأرض" (لنستحضر ولادة دولة الجنوب - رغم قيصريتها - حتى نتبيَّن تعريف الدولة).

    وهذا التعريف البسيط يخضع بالطبع لشروط التشكل الإقتصادى الإجتماعى التى تُفَسِّر لنا صيرورة الدولة ومسيرة نضجها منذ ولادة الحاجة إليها قبل نحو 10 ألف سنة حتى يوم النَّاس هذا. فالدولة قد بدأت ثيوقراطية/دينية، ثمَّ أصبحت علمانية بأنواعها المتعددة، ثمَّ وصلت في الوقت الراهن إلي مرحلة الدولة المدنية.

    فالتعريف أعلاه يُمثل الشروط العلمية لإنجاز مهام الدولة فى أىِّ مكان، وعلى أىِّ دين/لا - دين كانت؛ لا يهم أنَّها في مكة المكرمة زادها اللهُ تشريفاً ورفعةً، ولا يهم أنَّها في موسكو زادها اللهُ بيريسترويكا وغلاسنوست.

    كما أنَّ الدولة بهذا التعريف ليست معصومة من التعاطى مع معتقدات النَّاس. بل إنَّها تتأثر بمعتقدات شعبها وتؤثِّر فيها، فى إطارٍ من الجدل الحميم والمحتدم. ويجب ألاَّ يتوقع السياسى الناضج إجابة سهلة على عواقب إقحام الدين فى الدولة أو فصله عنها؛ فالمخاض طويل. والمهم فى كل ذلك هو أنْ تتعاطى الدولة مع معتقدات شعبها بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بالحقوق الأساسية لكافة مواطنيها وأن تتعامل معهم على قدمِ المساواة.

    وبالتالي إذا قام المجتمع بوضع دستور يتأوَّل (وتتأوَّل تشريعاته القانونية والمؤسسية المنبثقة من ذلك الدستور) معتقداتٍ لدينٍ بعينه (دين أغلبية مثلاً) تصبح دولته دولة دينية، وسوف تتضرر منها الأقليات الدينية/اللادينية الأخري لا محالة. وعليه ستفشل هذه الدولة في التعاطي العادل والمعتدل مع الحقوق الأساسية لكافة مواطنيها، وستفشل في التعامل معهم على قدم المساواة، وبالضرورة سينعدم الاستقرار في ظل هكذا دولة، والتي عادة ما تنتهي إلى البتر والانقسامات في البلد الواحد كما حدث لجنوب السودان المسيحي. وبالتالي تحتاج الدولة الدينية لكيفية ديمقراطية سلسة للفكاك من هذه العقلية الثيوقراطية والتعسف السياسي المصاحب لها (http://www.sudanile.com/111778http://www.sudanile.com/111778.

    وسوف يحدث نفس الشئ من عدم الاستقرار القائم على تبني دستور علماني يُسقط الحقوق الأساسية لأصحاب المعتقدات الدينية (أغلبية أو أقلية)، في عدم رفع الحرج العقدي عنهم بسبب منعهم من تطبيق شرائعهم على أنفسهم (لا يستطيع المسلم أن يطبق الحدود الاسلامية على نفسه في أوروبا العلمانية مثلاً). ونرجو أنْ تبتدع العلمانية السودانية حلولاً تُجيبُ بها على مثل هذه التساؤلات بشكل ديمقراطى أيضاً وغير متعسِّف، حتى لا ينفر منها المتدينون المدافعون عنها ولو مؤقتاً - الفكر الجمهورى مِثالاً (http://www.sudanile.com/111955http://www.sudanile.com/111955.

    وفي ظل هكذا واقع، كان لابد للفكر الإنساني أن يبتدع مخرجاً لهذا التعسف السياسي والتعاطي اللاديمقراطي في التعامل مع حقوق الأقليات من قِبَل الدولتين الدينية والعلمانية، بالقدر الذي يُتيح للناس ممارسة معتقداتهم بما يرفع عنهم الحرج العقدي، وفي ذات الوقت يبعد الدولة كليةً عن التدخل والمساس بهذه المعتقدات.

    نشوء وتطور مصطلح الدولة المدنية

    لاشك أنَّ بدايات السلوك المدنى نبعتْ من أول أسرة من لَدُن سيدنا آدم عليه السلام، ثمَّ من المصادقة على عقد إجتماعى للعشيرة، ثمَّ للقبيلة ثمَّ فى نهاية المطاف آل الأمر للدولة. وقد كانت الغرائز وحدها - لاسيما الشجاعة والخوف - على أيام العهود البدائية قبل ولادة الدولة، هى التى تدفعُ بالنَّاسِ للصراعات وتكفَّهم عنها (Jean Jacques Rousseau 1913).

    ثمَّ من بعد ذلك استطاعت الأديان - خاصةً التى بقِيتْ خالية من الهوى والغرض فى التأويل والتحريف البشرى - أنْ تمدَّ الإنسانية بِبَواكير العقود الإجتماعية الناصعة التى قد أسَّستْ للحال المدنى الذى أنجب الدولة الدينية، فالدولة العلمانية فيما بعد، ثم مؤخراً الدولة المدنية. وعبر هذه الصيرورة قيَّدَ الفردُ نفسَه، من حال التعامل الغريزى مع محيطه، بحال مدنى/بعقد إجتماعى فَصَله عن التعامل البوهيمى مع ذلكم المحيط.

    ويجب علينا أن نوضِّح هنا بأنَّ عبارة الـ (Civil State) التى ظهرت فى كتابات جان جاك روسو 1712- 1778م، ما كانت لتعنى الدولة المدنية بحال من الأحوال، بل كانت تعنى الحال/الوضع المدنى خاصةً إذا علمنا أنَّ جينولوجيا الحديث عن طبيعة الدولة نفسه هو حديث ورد فى التاريخ المعاصر: بداياته عند أنجلز ولينين، عميقه عند الماركسيين البنيويين وغيرهم من اللاحقين (حسين 2018). وفوق ذلك فإنَّ الغربَ الذي تحدث كثيراً عن المجتمع المدني، فهو لا يعرف مصطلح الدولة المدنية ويعتبره مصطلحاً شرقياً.

    ونحن هنا نؤكد بأنَّ مصطلح الدولة المدنية، كمقابل لمصطلحى الدولة الدينية والدولة العلمانية، هو مصطلحٌ سودانىُّ الجنسية وأبوه (The Father Founder) هو المفكر الجليل محمد إبراهيم نقد رحمه الله (محمد إبراهيم نقد، حل مشاكل السودان يتمثل فى دولة مدنية، الحوار المتمدن: العدد 425، 15/03/2003 - محمد إبراهيم نقد، حوار حول الدولة المدنية 2012). وأقول ما أقول، لأنَّ كثيراً من الكتابات التى طالعتُها تحاول أنْ تُمصِّرَ المصطلح، أو تُسَوِّرَه، أو تُمغرِبَه، أو تُبغْدِدَه؛ وذلك يحدث فقط لأنَّ الغرب قال بأنّه لا يعرفَ مصطلح الدولة المدنية ويعتبره مصطلحاً شرقيٌاً؛ فالكلُّ هبَّ لينسبه لنفسه؛ ولكنَّه، شاءَ من شاء وأبى من أبى، فهو سودانىُّ الجنسية.

    وصحيحٌ أنَّ هناك العديد من الكتابات التى تناولت المجتمع المدنى وأهميته فى الثلاثة عقود المنصرمة فى المنطقة العربية والإسلامية (راجع مثلاً: عزمى بشارة، محمد الغيلانى، الحبيب الجنحانى، عبد الإله بلقزيز، إلخ)؛ وفى الغرب منذ أزمنة بعيدة؛ إلاَّ أنَّها كلُّها لم تنفذ إلى حقيقة الدولة المدنية كما كتب عنها المفكر محمد إبراهيم نقد. ولكن من المؤسف أنَّ مصطلح الدولة المدنية مازال مهزوزاً فى أذهان النَّاس رغم ظهوره باكراً كبرنامج عمل للمعارضة الديمقراطية (الحزب الشيوعى السودانى) لحل مشاكل الدولة الدينية المتمثلة فى حكومة الوفاق أبّان الديمقراطية الثالثة عام 1988م. ومَرَدُّ هذا الإهتزاز لسببين فى تقديرى المتواضع:

    الأوَّل: عدم ربط المصطلح بشروحات وتفسيرات من أوجده (Lack of Symptomatic Reading) تحت شروط ظرفه التاريخى المحدد الذى هو الوحيد الكفيل (أى ذلك الظرف التاريخى) بأن يُضفى على المصطلح دلالته؛ بعيد عن إعمال الذهن والتَّكهُّن اللَّذَيْنِ يُحاولان جعلَ المصطلح مصطلحاً لقيطا أو مفخَّخاً؛ أى بلا واقع تاريخى مادى محدد، وبالتالى يُمكن أن تمتد إليه يدُ السرقة الأدبية أوتعريضه للإنتياش. غير أنَّ المصطلح يرتبط بجدل المجتمع والدولة فى واقع صيرورة جدلية تاريخية فى المحيط السودانى، غايتها السلام الاجتماعي والمواطنة والحرية والديموقراطية كما يذكر ذلك دائماً الدكتور عزمي بشارة (بشارة 2012).

    والثانى: تجيير أيديولوجيا أهل اليمين وأهل اليسار معاً للمصطلح ليخدم أغراضاً أيديولوجية تسئ فهم دلالة المصطلح التى عناها مُوجِدُهُ. فاليسار صار يرى فى مصطلح الدولة المدنية مخرجاً من لعنة الإلحاد التى تلازم علمانيته (رغم انحساره بعد تفكك الإتحاد السوفياتي)؛ وبالتالى فإن مصطلح الدولة المدنية قد يُساهم فى زيادة عضويته فى مجتمعات أغلبيتها متدينة. أما اليمين فيتوارى بالدولة المدنية من أيديولوجيته المتهافتة "الإسلام هو الحل"، والتى أفرغتها الممارسة الفعلية للإسلام السياسى فى السودان ومحيطه الاقليمي من معناها.

    وسوف نرى فيما سيأتى إنْ شاء الله، بأنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد لم يكن يضع نصب عينيه هذه التُّقية الأيديولوجية حينما تكلَّمَ عن الدولة المدنية، بل كان يعنيه إيجاد حل لمأزق أمته التاريخى المتعلق بإهدار حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وضياع الديموقراطية والحريات العامة وإعاقة التنمية لثلاث مرات فى: 1958، 1969، و1989، فابتكر لذلك مصطلح الدولة المدنية، وهو ابتكار له حجته المعرفية والعملية كما هو موضَّح أدناه.

    الخلفية السوسيوسياسية لنشوء الدولة المدنية فى فِكر الأستاذ محمد إبراهيم نقد

    هناك العديد من الأسباب فى الواقع السودانى التى تشكل دافعاً مهماً لكلِّ سياسى سودانى جاد فى البحث "فكرياً" عن مخرج يعالج قضايا المشكل السودانى، وما أكثرها. ولم يذهل المفكر نُقُد، بِنُقُد السياسى، عن مشاكل السودان التى أصبحت معقدة بعد الإستقلال، وصارت أكثر تعقيداً منذ ظهور الجبهة الإسلامية القومية فى الأرينة السياسية السودانية. كما أنَّ الفكر اليومى لم يَلْهِ المفكر نقد عن الفكر المُنْتِج للمعرفة الذى يضع حلولاً مستدامة لقضايا السودان، وقد نظر الرجلُ ثاقباً فى بعض القضايا الإجتماعية السياسية التى شكَّلتْ وعيه باتجاه الدولة المدنية، ومنها:

    1- فشل النخب السودانية فى إيجاد حلول لمشاكل السودان المصيرية بعد الاستقلال (التنمية، الهوية، فصل الدين عن الدولة، تقرير المصير، كيفية الحكم فى السودان، وغيرها) عن طريق منظور الدولة العلمانية (بواكير النظام المايوى) والدولة الدينية (نظام الإنقاذ المتساقط حالياً) معاً. وبالتالى كان هذا الواقع أكثر تذكيراً للحادبين، من أمثال المفكر محمد إبراهيم نقد، على مصلحة هذا الوطن من أن يبتدعوا حلولاً مستدامةً لهذه القضايا.

    2- لقد كان المفكر نُقُد على علم بأنَّ السلوك المدنى والحال المدنى، لم يَقُدْ إلى الدولة المدنية فى المجتمعات الغربية، وذلك ببساطة بسبب تجارب الدولة العلمانية نفسها (خاصة الإلحادية) التي لا تخلو سياساتها من التعسف السياسي والفكري الذي انتهى إلى اضمحلال المعتقدات عندهم، وإلى منع الأقليات من ممارسة عقائدهم بالكيفية الصحيحة التي ترفع عنهم الحرج العقدي، بالرغم من أنَّها وفَّرت لهم قدراً مهماً من الديمقراطية والحقوق والحريات الأخري.

    وبالمقابل فإنَّ مفكرنا نُقد كان على علمٍ تام بأنَّ مجتمعنا السودانى بخاصة (والشرقى عموماً) غنىٌّ بالسلوك المدنى/السلوك الأهلى الرفيع، لكنَّه ما انفكَّ - لعقود طويلة - عاجزاً عن خلق وضع مدنى/مجتمع مدنى يفضى للدولة المدنية. ويحدث ذلك ببساطة أيضاً لأنَّ سياسات الدولة الدينية وأيديولوجياتها (والجماعات المدافعة عنها خاصةً بعد أنْ ذاقت عسيلة السلطة في الثلاثة عقود المنصرمة) تفيض بالتعسف السياسي والفكري الذي يُعيق الوصول للدولة المدنية. ويتجلَّى ذلك في تصوُّر الدولة الدينية للدولة المدنية على أنَّها "اسم دلع" للعلمانية التى أذبلت الدين فى الغرب، وبالتالي هى أداة غربية لمحاربة معتقدات النَّاس في المجتمعات المسلمة وغيرها، والتي من الممكن أنْ تُذْبِلَ الدين فى السودان (فى الشرق).

    هذا الأمر اضطرَّ الغرب لاستزراع العقيدة المدنية وسط القوى الحية فى بعض المجتمعات العربية اختباراً، خاصةً فى مناطق شمال افريقيا وأنفق على ذلك أكثر من 5 مليار دولار. وهذا الاختبار للأسف لم يشمل السودان لعوامل كثيرة معلومة لصانعى القرار الغربى، وأهمها أنَّ الإسلام السياسي في السودان مازال قادراً على التمسك بالسلطة أكثر من غيره، وفاعلاً في محاربة كافة محاولات التغيير، خاصةً حينما بدأت مصالحه تتشابك مع مصالح بعض الدوائر الغربية (د. الصديق عبد الباقى 2011).

    ولكن من سخرية أقدار الاسلامويين السودانيين، أنَّ التديُّن المنحرف للدولة الدينية اللاديمقراطية في السودان خلال الثلاثة عقود المنصرمة قد أذبل الدين هو الآخر (كما فعلت العلمانية المنحرفة) بصورة فاجعة حتي، ولم تخطر على بال دعاة الدولة الدينية أنفسهم؛ إذْ أنَّ عدد الملحدين بين أولاد دعاة الاسلام السياسي أنفسهم فاق 1200 ملحد "اسلاموي"؛ ناهيك عن أنَّ عدد الملحدين السودانيين الآخرين الذي قارب المليون ملحد سوداني.

    إذاً المفكر نُقد بوعيه الطلعة وبصيرته النافذة، قد أدرك باكراً خطر السياسيين المنحرفين على عقائد أهل السودان، وبالتالي على السلم والنسيج الاجتماعييْن. وأدرك ضرورة التدخل الفكري العاجل لمنع ذلك الخطر. ولا غُروَ أنَّه أول من قال (مدنياااااااو) في وجه الدولة العلمانية والدولة الدينية معاً، وهو أول من قال – حينما بدأ ذلك الخطر يتجسَّد أمام بصره في حقيقة احتمال أن ينفصل الجنوب – قال وقتها: "إن شا الله ربنا ما يحضرنا اليوم النشوف فيهو الجنوب ينفصل عن الشمال".

    3- لم يكن العرب عبر تاريخهم المجيد ذوى إهتمام بالفكر إذا ما قارنا ذلك بإهتمامهم بالسلطان، وبالتالى كانوا أكثر ما يُعالجون قضاياهم بالتوازنات السياسية القائمة على ما يرد إليهم من الخارج. ولا عجب إذاً، أن نجد أنَّ معظم الذين أضافوا للفكر العربى والإسلامى فى السابق هم وافدون من أطراف الدولة/الإمبراطورية الإسلامية إلى جزيرة العرب، لا سيما الروّاة الستة الأشهر من رواة الحديث على سبيل النذر لا الحصر.

    كما أنَّ كل محاولات المُفكرين المُحدثين الذين أَثْرَوْا المدرسة الفكرية بالحديث عن الدين والدولة (محمد عابد الجابرى) ونَقْد الدولة الطائفية (مهدى عامل) والدولة فى التاريخ المعاصر وفى محيط أزماتها الراهنة (سمير أمين) وغيرها، لم تتجاوز رؤاهم الفكرية المطلب الغربى فى خلق مجتمع مدنى يُفضي فيما بعد إلى العلمانية؛ وبالتالى هى الاخرى لم تنفذ إلى مطلب الدولة المدنية كما نفذ إليه المفكر محمد إبراهيم نقد، وذلك لتمحور هذه العقول حول المطلب الغربي العلماني رغم تناقضاته.

    4- نشأت فكرة الدولة المدنية عند المفكر محمد إبراهيم نقد من واقع محك عملى غير متوفر للكثير من الدول العربية أبّان فترة الديموقراطية الثالثة (1985- 1989). وهذا المحك هو الديموقراطية نفسها، وتحديداً حين أحكمت الجبهة الإسلامية القومية خناقها على رئيس وزراء السودان الأسبق السيد الصادق المهدى وإرغامه على توسيع حكومته لتشمل الجبهة الإسلامية القومية بقوانينها السبتمبرية الشهيرة، فكان أنْ أعلن الصادق حكومة الوفاق فى عام 1988.

    ولتجنيب البلد متاهات الدولة الثيوقراطية التى تحمل الجبهة الإسلامية القومية جرثومتها من الديانتين الإسلامية والمسيحية البروتستانتينية الكالفينية (راجع الرابط الأول أعلاه)، عرض المفكر محمد إبراهيم نقد مفهوم دولته المدنية لأول مرة فى ذلك العام (1988) "خلال المشاورات التي أجراها مجلس رأس الدولة مع الكتل البرلمانية" بغرض التوسيع المذكور بعاليه.

    5- كان للأُستاذ المفكر محمد إبراهيم نقد رأى فى العلمانية الإلحادية؛ علمانية الإتحاد السُفياتى على وجه التعيين، لِما تنطوى عليه من مفهوم لقمع الحريات وبالأخص الحريات الدينية، وكان هناك تخوُّف بالمقابل من أنْ تستغل الجبهة الإسلامية القومية هذا المفهوم وتُروَّج له أيديولوجياً لتصادر الديموقراطية والحريات العامة بموجبِهِ (وللأسف قد حدث).

    ولعلَّ سقوط الإتحاد السوفياتى عام 1989م قد أفردَ مناخاً معافىً ليتخلص العالم من وِزر الأيديولوجيا الثقيل، وبالتالى انهار المفهوم العلمانى الإلحادي الصِّرف بكل تناقضاته، فنأى المفكر نُقد بنفسهِ عن العلمانية المُقيِّدة للحريات عامةً والحريات الدينية خاصةً فى كتاباته اللاحقة بشكل صريح، ونأى كذلك عن العلمانية المتبنِّية للأديان كعلمانية إنجلترا (راجع أنواع العلمانية في الرابط الثاني أعلاه)، وانتهى الأمر بالمفكر نقد إلى التركيز على الممارسة الديمقراطية والحريات العامة والتى تُغذِّى مفاهيم الثورة الوطنية الديموقراطية بشكل مباشر؛ والثورة الوطنية الديموقراطية "بمحتواها الليبرالي" هى في تقديري المتواضع تُمثل السياق المعرفى العام (البارادايم) للدولة المدنية.

    6- لقد كانت البلد أبَّان فترة الديمقراطية الثالثة (أعادها اللهُ على الجميع باليمن والبركات) مشحونة بحالة من الاستقطاب الأيديولوجى الحاد بين خيارات الدولة العلمانية والدولة الدينية، وكلاهما لا يخلو من المحاذير التى يتخوف منها المفكر نقد كما جاء بعاليه. وقد تجلى هذا الاستقطاب فى رغبة الكثيرين فى إلغاء قوانين سبتمبر 1983، الذى ناحرته الجبهة الإسلامية القومية فى حكومة الوفاق بقوانين بديلة.

    هذا الاستقطاب الحاد (الذى قاد إلى إنقلاب الجبهة الإسلامية فيما بعد) هو الذى ألهم مُفكرنا نقد، فى إطار بحثه الدؤوب لِايجاد حل لمشاكل السودان - لابتداع الدولة المدنية. وهذه الدولة المدنية ليست وليدة الفكر اليومى كما أسلفنا، ولكنها ترقد بشكل جنينى فى رحم أدبيات الماركسية السودانية خاصة فى حديثها عن الماركسية وقضايا الثورة السودانية، وفي الوثيقة التي تتحدث عن الديموقراطية لسنة 1977، وفي رؤيتها عن النقابات كمنظمات مجتمع مدنى. كما توجد تجليات لهذه الدولة المدنية فى كثير من القوانين السودانية الشرعية والمدنية (القانون المدنى وقانون المعاملات المدنية)، وغيرها من القوانين التى تنظم العمل الطوعى ومنظومات المجتمع المدنى.

    وبالتالى إلتقاط هذا المفهوم من قِبَل المفكر محمد إبراهيم نقد وإضافته لقاموس الفكر السودانى والعالمى ليس مستمدَّاً من أىِّ حالة من حالات النزق السياسى (المعادلات السياسية)، ولكنَّه نابع من وعى عميق بوقائع التاريخ وحيثيات تشكل واقعنا السودانى؛ وبالتالى المفردة ليست وافدة بحال من الأحوال.

    7- لعلَّ مفهوم الدولة المدنية قد استند على الفكر الحر والتفكير الحر الذى كان يوجِّه المعارضة الديموقراطية فى برلمان 1986 الحر الديمقراطي، والذى كان يقوده المفكر محمد إبراهيم نقد بنفسه من داخل ذلك البرلمان. وذلك الفكر الحر لم يكن متاحاً فى أىِّ دولة من دول المحيط العربى ولا الأفريقى فى ذلك الوقت، لأنّهما كانا تحت سطوة الأنظمة العسكرية الديكتاتورية.

    وحتى فى الوقت الذى انعدمت فيه الحرية فى السودان بمجئ الإنقاذ للسلطة، ظلَّ الحزب الشيوعى السودانى يبشِّر بالدولة المدنية عن طريق عضويته فى المعارضة السودانية فى الخارج، المتمثلة فى التجمع الوطنى الديموقراطى، بعد إنقلاب الإنقاذ فى عام 1989؛ الذى تبنِّى مضامين الدولة المدنية وضمَّنها فى دستور السودان الإنتقالى الذى إنعقد بصدده التجمع الوطنى الديمقراطى فى 26 يناير – 3 مارس 1992 بمدينة لندن.

    وقد كان أمر هذه الدولة المدنية أكثر وضوحاً فى إعلان نيروبى الذى إنعقد فى 17 أبريل 1993 حول علاقة الدين بالدولة، وأكثر دقةً فى مؤتمر القضايا المصيرية الذى إنعقد بأسمرا فى يونيه 1995. وعن طريق هذ الفعاليات بُذلت الدولة المدنية لمحيطنا الأفريقى والعربى والعالمى قبل أن يصدُر بشأنها كتاب السيد محمد إبراهيم نقد "حوار حول الدولة المدنية" فى عام 2012.

    ليس هذا وحسب، بل أنَّ التجمع الوطنى الديمقراطى المعارض قد استمع فى عام 1999 لورقة الحزب الشيوعى السودانى "قضايا استراتيجية" المقدمة من عضويته فى الشتات والتى تحدثتْ عن:

    "فصل الدين عن الدولة المتأسِّس على التسامح والإحترام للمعتقد الدينى الذى ينتهى بالأمة للمساواة فى المواطنة؛ حيث لا تخضع المعتقدات لمعيار الأغلبية والأقلية، وأنَّ الدين يشكل مكوناً من مكونات فكر ووجدان الشعب السودانى، ومن ثمَّ رَفْض كل دعوة تنسخ أو تستصغر دور الدين فى حياة الفرد. وعلى خلفية هذا الواقع الموضوعى وتأسيساً عليه تستند الديمقراطية السياسية السودانية فى علاقتها بالدين على مبادئ النظام السياسى المدنى التعددى، والتى تشكل فى الوقت نفسه فهمنا لمعنى العلمانية. فمصطلح النظام المدنى أقرب لواقعنا من مصطلح النظام العلمانى ذى الدلالات الأكثر إرتباطاً بالتجربة الأوروبية. وبالتالى طرح الحزب الشيوعى السودانى للدولة المدنية يرتكز على أسبقية الديمقراطية والتأكيد على أنَّ العلمانية ليست بالضرورة ديمقراطية (مثال دولة ستالين، موسيلينى، وبونيشيه)، وكذلك الدولة الدينية" (الشريف، سودانيزاونلاين/ محمد إبراهيم نقد، مجلة البيان 28 أغسطس 2002).

    هذه هى منطلقات الدولة المدنية فى فكر الأستاذ محمد إبراهيم نقد، التى منبعها التجربة الفكرية الثَّرَّة، وحيثيات الصراع الإقتصادى الإجتماعى فى السودان. وفى هذا الأثناء، كانت كل الدول العربية (والأفريقية) من حولنا ممنوعة من التفكير الحر، والسياسة – لا الفكر – هى من يوجه صراعاتها. ونتمنى من الذين يَدَّعون بولادة هذا المصطلح خارج البيئة السودانية أن يأتوا بأدلَّتِهم.

    إرث أهل السودان من الدولة المدنية

    لقد رأينا بعاليه أنَّ الدولة المدنية دولة سودانية خالصة. وأنَّ المرحوم المفكر محمد إبراهيم نقد هو مبتدع هذا المصطلح، ولن نُكرِّر ذلك هنا. غير أنِّى هنا بصدد البحث عن تناص فكرة الدولة المدنية مع بعض الآراء السودانية المطروحة عبر التاريخ، لا سيما أنَّ المرحوم نقد قارئ نهم ومطلع على دقائق التاريخ؛ وقديماً قال أبو البنيويةِ إبنُ عمتنا عنترة بن شدَّاد "الكوشى": "هل غادر الشعراءُ من مُتَرَدَّم". فمثلاً:

    1- أشك فى أنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد قد ابتدع دولته المدنية دون أن يمر بمنحوتة الأمير خاليوت بن بعانخى التى كُتبت على أقل تقدير قبل 4 ألف سنة قبل الميلاد، والتى تقول:

    (إنَّنى لا أكذب، ولا أعتدى على ملكية غيرى، ولا أرتكب الخطيئة، وقلبى ينفطر لمعاناة الفقراء، إنَّنى لا أقتل شخصاً دون جرمٍ يستحق القتل، ولا أقبل رشوة لأداء عمل غير شرعى، ولا أدفع بخادم استجارنى إلى صاحبه، ولا أُعاشر إمرأة متزوجة، ولا أنطقُ بحكم دون سند، ولا أنصب الشراك للطيور المقدسة "أو أقتلُ حيواناً مقدساً"، إننى لا أعتدى على ممتلكات المعبد - الدولة، أُقدمُ العطايا للمعبد، إنَّنى أُقدم الخبز للجياع، والماء للعطشى، والملبس للعُرى. أفعلُ هذا فى الحياة الدنيا وأسير فى طريق الخالق، مبتعداً عن كلِّ ما يغضب المعبود، لكى أرسم الطريق للأحفاد الذين يأتون من بعدى فى هذه الدنيا وإلى الذين يخلُفُونهم وإلى الأبد).

    ويقول الأستاذ أحمد طه عن هذه المنحوتة: "إذا استبعدنا طيوره وحيواناته المقدسه.. يصلح هذا النص لنا نحن أحفاده وللإنسانية جمعاء (دستوراً) لتأصيل القيم والاخلاق صاغه ملكاً بيده السلطه والقوه ولكنه كان رحيماً بشعبه" (أحمد طه، الراكوبة 24/12/2014).

    وعن ذات المنحوتة يقول الأستاذ صلاح هاشم السعيد عن جزئية "ولا أقبل رشوة لأداء عمل غير شرعي": "أنَّ ما قاله هنا في هذه الجملة تحديداً يدل على وجود دولة مدنية مؤسسية بأنظمتها الإدارية والعدلية ـ بدليل إمكانية خرقها ـ على افتراض وجود أداء شرعي وآخر غير شرعي" (صلاح هاشم السعيد، موقع البركل، 14/10/2009).

    وعلى العموم أقل ما يمكن قوله عن منحوتة خاليوت بن بعانخى الذى كان زاهداً فى التسلُّط السياسي أنَّها قسمٌ كوشىٌّ عاكس لدولة راسخة القدم فى المؤسسية، والكفاية والعدل، والقضاء النزيه الشفاف، والتوحيد والقيم الرفيعة. إذاً، فهى دولة مؤسسات، ودولة قانون، ودولة مواطنة (وذلك شطر الدولة المدنية)، خاصةً إذا علمنا أنَّها دولة سابقة لنزول الأديان المعروفة (قبل 7000 سنة قبل الميلاد كما في رواية الأستاذ أحمد طه في مقاله أعلاه).

    نعم قد إختطَّ لنا جدنا خاليوت بن بعانخى، نحن الأحفاد، طريقاً معبدةً بتلك القيم والأخلاق والمؤسسات إلى الأبد، والمفكر محمد إبراهيم نقد ليس بِدعاً من أحفاد خاليوت البررة، فهو متشبِّع بتلك القيم. أمَّا من حادوا عنها، فحُقَّ لنا أن نسأل كما سأل أديبنا الطيب صالح: "من أين أتى هؤلاء؟".

    2- إنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد يعلم علم اليقين بالأيقونة الفكرية للأستاذ المفكر الشهيد محمود محمد طه - وهذا الشبلُ من ذاك الأسد البعناخوى أيضاً - القائلة: "الحُرِّيَّة لنا ولِسِوانا". وهذا القول الباسق الشاهق إذا تمَّ تفكيك كبسولته وتمَّ تنزيله على أرض الواقع، فلن تستوعبه بالطبع الدولة الدينية لأنَّها عدوة الحرية والديمقراطية، ولا الدولة العلمانية الإلحادية (ولو مؤقتاً) لأَنَّها ضد كل ما هو دينى؛ ولكن فقط يستوعبه سياق الدولة المدنية.

    لكلِّ هذه الأسباب السوسيوسياسية والسوسيوثقافية فإنَّ السودان يُشكِّل بيئة خصبة لنشوء الدولة المدنية فيه قبل غيره، وذلك بما لديه من إرث تاريخى فى هذا الشأن، وبما لديه من مفكرين شُجعان بذلوا النَّفْسَ والنفيس فداءاً لفكرهم.

    لقد قلتُ ما قلتُ بعاليه من واقع قراءتي الدلالية للأستاذ محمد إبراهيم نقد المُفكر، ومن ذات الواقع أسأل سؤالي الراتب وهو: "إذا كانت معتقدات النَّاس – حسب ما يقول الحزب الشيوعى السودانى - لا تخضع لمعيار الأغلبية والأقلية (وفي هذا فوت فكرى للحزب الشيوعى السودانى على الأحزاب الأخرى التى تنادى بديمقراطية الأغلبية)، فإنَّ الحزب الشيوعى السودانى لم يُخبرنا عن المخرج المدنى الديمقراطى غير المتعسف المتعلق بالأقليات الدينية/اللادينية حينما قال الناطق الرسمى للحزب الشيوعى السودانى المرحوم يوسف حسين ذات حوار بالراكوبة قولاً سياسياً لا فكرياً: "إذا جاءتنا الشريعة الإسلامية بالديمقراطية فسنقبل بتطبيقها".

    وهذا يعنى أنَّ بعض الأقليات ستقبل بهذا التطبيق كَرْهاً فى حالة فوز الأغلبية المسلمة بالإنتخابات. وإذا بعد أربعَ سنوات خسِرَ دعاة الشريعة مقعدهم، هل سنمنع تطبيق الشريعة على من أراد أن يُطبقها على نفسه لأنَّ أقلية علمانية أو مدنية فازت بالسلطة؟ كيف العمل إزاء هذه القضية التى لا تقبل بأى تعسف فكرى أو سياسى كما يشير الحزب الشيوعى السودانى نفسه؟

    مفهوم الدولة المدنية فيما بعد حقبة المفكر محمد إبراهيم نُقُد

    من الواضح كما رأينا بعاليه أنَّ ثمةَ مشكلة بالنسبة لكلِّ نوع من أنواع الدول الثلاثة (عن نوعي الدولة الدينية والعلمانية أرجو مراجعة الروابط أعلاه) حينما يكون الحديث عن المعتقدات بشكل عام، والحديث عن معتقد الأغلبية ومعتقد الأقلية على وجه الخصوص، كما أنَّ للدولة الدينية مشاكل أُخرى متعلقة بالحرية والديمقراطية ومفهوم المواطنة القطرية.

    والجدير بالذكر، أنَّ الثلاثة أنواع للدولة تُقِر بالتنوع الثقافى، والإثنى، والدينى، واللغوى فى السودان. وبالرغم من هذا الإقرار، إلاَّ أنَّ المشرعين المعنيين بقضايا السودان المصيرية فى إطار كلِّ دولة من الدول الثلاث، يلجأون إلى حلول غير متناغمة مع هذا التنوع وفوق ذلك تعسُّفية؛ ومنها مَن ينحو منحىً تمييزيا/تمكينياً وعنصرياً كالدولة الدينية.

    وبالتالي في هذا الجزء من هذا المقال التأشيري، نحاول أن نضع المحددات الفكرية التي تخلِّص مصطلح الدولة المدنية من أيِّ تعسف فكري أو سياسي فيما يتعلق بمعتقدات الأقليات/الأغلبيات؛ وذلك بما يضفي عليه صفته الديمقراطية السلسة، ودلالته التي يستطردها المرحوم المفكر محمد إبراهيم نقد.

    محددات الدولة المدنية

    يمكننا من حيثيات التشكل الاقتصادي الاجتماعى في السودان، ومن القراءة الدلالية لمفهوم الدولة المدنية عند المفكر محمد إبراهيم نقد، ومن الكتابات الحديثة نسبياً التي تناولت موضوع الدولة المدنية بإضافات مهمة - كمقال د. أحمد زايد والذي يُعتبر تطوراً نوعياً باتجاه ترسيخ معاني الدولة المدنية (كل ما هو بين معكوفتين مقتبس من مقاله)* - أن نعيِّن محددات الدولة المدنية وأركانها (ومن ثم تعريف مفهومها) التى إنْ غاب أحدها إنزلقَ مفهوم الدولة المدنية إلى الدولة الدينية أو العلمانية، وهذه المحددات هى:

    1- كما هو معلوم فإنَّ الأساس المادى للثورة الوطنية الديمقراطية بمعناها الليبرالي وبالتالي بالنسبة للدولة المدنية، هو إتزان معادلة الإنتاج/معادلة الإقتصاد القومي (العمل/العمال والقوى الحديثة + رأس المال/رجال الأعمال + التنظيم/المهنيين + الأرض/بورجوازية الدولة = الإنتاج/العملية الإنتاجية/الثورة الوطنية الديمقراطية فى نهاية المطاف) وديموقراطيتها واستدامتها. ولن تكون معادلة الإنتاج هذه ديمقراطية فى غياب تنظيمات المجتمع المدنى والسياسي الممثِّلة/الحارسة لكلِّ عنصر من عناصر إنتاج هذه المعادلة. وإذا نظرنا للواقع الإقتصادى والسياسي والإجتماعي/المدني السوداني نجد فيه غياب تام لحزب يُمثل العمال بكلِّ شِعبِهِم والقوى الحديثة فى السودان، ليقف على حراسة استحقاقات عنصر العمل بالأصالة لا بالوكالة.

    وبالتالي من أهم محددات الدولة المدنية هو قيام حزب للعمال والقوى الحديثة ليكون مفتوحاً لكلِّ التحالفات (مع المهنيين السودانيين بخاصة) التي تجعل الإقتصاد والسياسة القوميين متجانسين ومتوازنين وديمقراطيين ومستدامين.

    2- من أهم محددات الدولة المدنية هو رغبة المجتمع فى الخروج من البوهيمية إلى الحال المدنى (Civil state)، بالتوافق على عقد إجتماعى يشمل كافة قطاعات المجتمع، ويتحوَّل فيما بعد إلى دستورٍ مؤقت/دائمٍ مُعبرٍ عن إرادة ذلك المجتمع وإجماعه، فى صورة مؤسسات وقوانين لا تطالها تأثيرات القوى المجتمعية أيَّاً كان مصدرها: الفرد أو الجماعة أو الطائفة أو المذهب أو مجموعات الضغط؛ غايتها تنظيم الحياة العامة وحماية الملكية الخاصة وتنظيم العقود وشمولية تطبيق القوانين على كافة أفراد المجتمع دون إستثناء لذى جاهٍ أو سلطان.

    3- من أهم سمات الدولة المدنية هى أنَّها دولة القانون التى تحتاج إلى القضاء المستقل والمؤسسات العدلية المستقلة عن المؤسسات الأُخرى السيادية والتشريعية والتنفيذية المستقلة هى الأُخرى كلٍّ على حدة؛ وذلك لضمان إرساء المبادئ العدلية وشموليتها. ولعلَّ "أهم سمة من سمات دولة القانون هى ألاَّ تخضع حقوق الفرد فيها لأىِّ إنتهاك من قِبَل أى طرف آخر، وذلك لأنَّ سُلطة الدولة دائماً حاضرة وهى فوق سلطة الأفراد، ويلجأ إليها كل أفراد المجتمع حينما تُنتهك حقوقهم أو تكون قابلة للإنتهاك".

    4- من سمات الدولة المدنية هى "تنامى الوعى المدنى والعقيدة المدنية التى تنبنى على السلام والتسامح وقبول الآخر واحترام خصوصياته والمساواة فى الحقوق والواجبات والثقة فى عمليات التعاقد والتبادل المختلفة". وهذه القيم تمثل ما يُطلق عليه "الثقافة المدنية" وهى ثقافة تخلقها إستدامة حكم القانون والديمقراطية، أىْ العيش في واقع الثورة الوطنية الديمقراطية بمعناها الليبرالي، وهى تقوم على مبدأ الإتفاق والتراضى، وتعززها أعراف وأنساق عديدة غير مدونة تمثل عصب الحياة اليومية للمواطنين (وما أعظم هذه الأعراف والأنساق عند أهل السودان التي جسدها اعتصام القيادة العامة)، تصوغ لهم "مبادئ التبادل القائم على النظام لا الفوضى" (أرفع إيديك فوق التفتيش بالذوق)، "وعلى السلام لا العنف" (سلمية سلمية ضد الحرامية)، "وعلى العيش المشترك لا الفردى" (العندو يخت والماعندو يشيل)، "وعلى القيم الإنسانية العامة لا الفردية ولا المتطرفة" (إيدينا للبلد، يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور).

    فالثقافة المدنية تخلق من المواطنين نشطاء مثقفين مدنياً (شباب شارع الحوادث ونفير مِثالاً) يعرفون ما لهم وما عليهم، ويساهمون بفعالية فى تحسين ظروف مجتمعاتهم، بحيث يرتقون بوعيهم المدنى بشكلٍ مستدام، ويُمجِّدون كلَّ ما هو عام: "كالأخلاق العامة، الصالح العام، الملكية العامة، المبادئ العامة، ويحرصون دائماً على كل ما يتصل بالخير العام".

    5- من سمات الدولة المدنية أنَّها دولة مواطنة، يُعرَّف الفردُ فيها "تعريفاً قانونياً إجتماعياً على أنَّه مواطن (بدون ألقاب) فى المجتمع له حقوق وعليه واجبات يتساوى فيها مع جميع المواطنين. وإذا كان القانون يؤسس فى الدولة المدنية قيمة العدل، وإذا كانت الثقافة المدنية تؤسس فى الدولة المدنية قيمة السلام الإجتماعى، فإنَّ المواطنة تؤسس فى الدولة المدنية قيمة المساواة والقيم الإنسانية جميعها".

    6- ومن أهم سمات الدولة المدنية ومحدداتها هى الديمقراطية، وهى بالتالى الصمام الذى يمنع أخذ السلطة بالقوة والغصب بواسطة "فرد أو نخبة أو عائلة أو أُرستقراطية، أو نزعة أيديولوجية". إنَّ الديمقراطية هى سبيل الدولة المدنية الوحيد لتحقيق كلِّ ما هو عام، "كما أنَّها هى وسيلتها للحكم العقلانى الرشيد وتفويض السلطة وانتخابها وتداولها سلمياً. وإنَّ الديموقراطية تتيح التنافس الحر الخلاَّق بين الأفكار السياسية المختلفة للمواطنين، وذلك بما ينبثق عنها من سياسات وبرامج مكرسة لتحقيق المصلحة العليا للمجتمع، ويكون الحَكَم النهائى لهذا التنافس هو الشعب؛ لابصفة شخوصه، ولكن بما يطرحونه من برامج وسياسات" لتحقيق تلك الأهداف العليا (اقتصادية، اجتماعية، سياسية وغيرها) بالنسبة للوطن بالشكل المتجانس الديمقراطي المتوازن والمستدام.

    إذاً، فالديمقراطية تُزَكى الثقافة المدنية التى تَرْقى بالمجتمع وتحسِّن ظروفه المعيشية. ولا تتحقق الديمقراطية إلاَّ بمزيدٍ من الديمقراطية (بالثورة الوطنية الديمقراطية بمعناها الليبرالي)؛ أىْ "بقدرة الدولة المدنية على خلق مناخ عام للنقاش والتبادل والتواصل الإجتماعى بين المجموعات المدنية المختلفة والآراء المختلفة وغيرها. ويشمل هذا المناخ العام فى المستوى الجزئى {لجان المقاومة} والجماعات الفكرية والأدبية والروافد الثقافية، ويتدرج ليشمل الجمعيات الأهلية والمنتديات والمؤتمرات العامة، وصولاً إلى النقاشات التى تدور فى أروقة النقابات وجماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدنى الأخرى والحركات الإجتماعية والأحزاب السياسية".

    هذا المناخ العام يجب أن يكون مستقلاً ومدنياً وغيرَ مُحَرَّضٍ بالأيديولوجيا، ليكون بمستطاعه القدرة على طرح الفهوم والأفكار بشكل ناضجٍ وحرٍ ونزيه. وبالتالى هذا المناخ العام هو الذى يُحرِّض المجتمع على ابتداع الأساليب المدنية النوعية فى التثاقف العام والتواصل الجمعى، ويخلق من الحوارات المتنوعة والمتباينة فُسيفساء مدنية مُقترنة بالهم العام. "ويتأسس هذا المناخ المدنى العام بالفعل التواصلى الحوارى الذى يقوم على احترام أفعال الآخرين وأفكارهم ومعتقداتهم والإستجابة إليها بشكل مدنى عقلانى من غير فوضى أو رفض".

    تعريف الدولة المدنية من واقع محدداتها

    الدولة المدنية هى: جملة الإجراءات القانونية والمؤسسية المُتَوَصَّل إليها ديمقراطياَ/توافقياً، وِفق دستورٍ ديموقراطىًّ انتقالي/دائم، ومُنبثقٍ عن عقدٍ إجتماعىٍّ مدنىٍّ جامعٍ وديمقراطيٍّ أيضاً، ومعبِّرٍ عن إرادة المجتمع بكل تنوعاته (مدنياااااو)؛ وبالتالي هى غير خاضعة لتأثيرات القوى الإجتماعية فى ذلك المجتمع ولا لأيديولوجياتها ولا لنزعاتها، وعلى هذا الأساس تمنع الدولة المدنية تسمية وقيام الأحزاب السياسية على أساس ديني/عقدي؛ مهمتها إنجاز الحقوق والواجبات المتبادلة بين الدولة المدنية والمجتمع المدني كتجانس وتوازن واستدامة وديمقرطة معادلة الاقتصاد القومي والمعادلة السياسية والاجتماعية/المدنية وغيرها وخلق مناخ للعمالة الكاملة، فى إطار دولة القانون، ودولة المواطنة في سياقها القطري، ودولة الحرية والديمقرادية وحقوق الانسان المنصوص عليها بكل المواثيق الدولية، وسيادة الثقافة المدنية؛ وتتعامل مع تنوعات ذلك المجتمع بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بتلك الحقوق والواجبات لكافة المواطنين؛ وأن تتعامل معهم على قدمِ المساواة بلوغاً لاستدامةِ الديمقراطية وترسيخها.

    موقف الدولة المدنية من المعتقدات (الشريعة الإسلامية مثالاً):

    لا تقوم الدولة المدنية بمعاداة معتقدات النَّاس (أىِّ معتقدات) كما كان الحال على عهد الدولة العلمانية الإلحادية فى الأتحاد السوفياتى السابق. كما لا تسمح الدولة المدنية باستغلال المعتقد لمصلحة دنيوية (لا حزب الإسلاميين الجدد، ولا حزب الملحدين السودانيين)، وبالتالى تجرح قُدُسِيَّتَهُ وتستهزء به كما فعلت الإنقاذ فى السودان وغيره من الدول المسماة اسلامية وغيرها. ولا تتسربل الدولة المدنية بدِين أغلبية ولا بدين أقلية كما هو الحال فى بعض نماذج دول العلمانية السياسية كبريطانيا. ولكنَّ الدولة المدنية تؤكد على أهمية الدين كجزء لا يتجزأ من منظومة الحياة المدنية، وكقيمة إيمانية روحية بالغة التأثير فى حياة النَّاس ومعزِّزة لجوهر الثقافة المدنية من جهة كون أنَّ المعتقد هو "الداعم الأهم للأخلاق والحاض على الإستقامة والإلتزام لا سيما فى الشئون التعاقدية؛ بل هو عند البعض الباعث على حب الخير للنَّاس والإخلاص فى العمل والنجاح فى الحياة عموماً".

    إذاً، فالدولة المدنية لا تتسامح مطلقاً مع إستخدام المعتقد لتحقيق أهداف سياسية (تنتهي في العادة إلى أهداف إقتصادية)، وبالتالى تحويله إلى موضوع خلافى وجدلى وإلى تفسيرات تُسئ إليه وتبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة الزائلة. فالمعتقد فى ظل الدولة المدنية ليس أداةً للسياسة تُجيِّرُهُ أنَّى شاءت لتحقيق مصالحها، ولكنَّه بالمقابل فهو أسمى القِيم فى الفضاء المدنى، وتتطور علومُهُ وفهومُهُ بقوة الفكر ومنطقه الداخلى القويم؛ بعيداً عن منطق التطرف والعنف الذيْن لا يُسمح بهما البتة فى إطار الدولة المدنية والثقافة المدنية.

    وبهذا الفهم فإنَّ الدولة المدنية لا تتعامل مع الأديان (الشريعة الإسلامية مثالاً) بالمنطق المتعسف التى تمارسه دولة العلمانية الإلحادية أو الدولة الدينية، ولكنَّها تلجأ إلى التخيير كقيمة مدنية ديموقراطية محقِّقة لشروط المواطنة. وبالتالى من حق المواطن (أى مواطن) أن يختار نوع الشرائع/القوانين التى يود أن تُطبَّق عليه؛ سواء أكانت شرائع/قوانين دينية (إسلامية، مسيحية، يهودية، إلخ) أو وضعية، ويجب أن تُسجَّل فى سجلِّه المدنى ويحويها رَقْمُهُ الوطنى. كذلك فإنَّ الدولة المدنية تكْفُل له الدخول تحت الشِّريعة والقانون الذى يُريد، وتكْفُل له الخروج منهما متى ما يريد تحت ضوابط تكفل احترام المعتقدات فى الحالتين (حسين أحمد حسين ولؤى هاشم، مناقشات حول تطبيق شرائع/قوانين الأغلبية والأقليِّة، 2013).

    ولعل فضيلة التخيير المدنية هذه ستُساعدنا فى تجاوز مأزق الدولة الدينية المتاجِرة بالأديان، والتى تود أن تفرض قوانينها الدينية بمنطق الإكراه والوصايا والحاكمية الإلهية، ومنطق الأغلبية والنخبوية والأُرستقراطية. كما يُساعدنا ذلك التخيير بالنفاذ بالعبارة الحصيفة التى أوردتها دولة نُقُد المدنية "لا تخضع المعتقدات لمعيار وعلاقة الأغلبية والأقلية" إلى غاياتها؛ وهى حرية الإعتقاد، إحترام المعتقدات، حرية الإنتقال بين المعتقدات، وتحرير المعتقد من عسف السياسة وتركه للفضاء المدنى.

    وصحيح، ربما تكون هناك مشكلة فى ذهن المشرِّعين متعلقة بكثرة الشرائع وكثرة القوانين، ولكنَّها فى نهاية المطاف تعبِّر عن تنوعنا (لكلٍ جعلنا منكم شِرعةً ومِنهاجاً) بشكل مدنى ديموقراطى خالى من التعسف والإكراه والجبرية، ويجب أن يكون الدستور الدائم للسودان معبِّراً عن هذا الواقع أيضاً. كما أنَّ تتعدد القوانين وتعدد الشرائع، أهون على النَّاس من أن يكون التعسُّف السياسي القائم على التعسف العقدي سبباً فى حروب وفتن لانهائية.

    لقد جرَّب السودان العسف والحَيْف منذ الإستقلال إلى يومِ النَّاسِ هذا، وكانت النتيجة فُرقة أبناء الوطن الواحد، واحترابهم الدائم وانفصال جزءٍ عزيز من بلدهم، وبُغِّضَ إليهم كلُّ ما هو دينى. فلماذا لا نجرِّب التخيير؟ فبدلاً من أنْ تُطبَّق علىَّ الشريعة إكراهاً كما هو قائم الآن، فلتُخيِّرُنى الدولة المدنية بمسلك مدنى ديموقراطى متحضر (وهنا تسقط صفتها الدينية والعلمانية القُحَّة معاً) فى القوانين التى أحب أنْ تُطبَّق علىَّ: قوانين الشريعة (الإسلامية، المسيحية، اليهودية، وغيرها)، القوانين الوضعية، أو أى قوانين أُخرى. وهنا تظهر عدد من الحقائق التى لا يراها المتعسف الديني ولا المتعسف العلماني:

    1- ستتبدَّى للنَّاس لِأَوَّل مرة سماحة الشريعة الإسلامية فيكثر أتباعُها، أو وجاهة القوانين الوضعية فيزداد أنصارها. وإذا كان اللهُ عزَّ وجلَّ مُتِمَّاً نوره ولو كَرِهَ الكافرون، فَفِيمَ الخشية من التخيير؟ هل هى حيطةٌ وحرصٌ وخوفٌ من الحاكم إذا لم يُكره النَّاس على الشريعة سيصبح كافراً وظالماً وفاسقاً، وإنَّ النَّاس سيهجرون دين الله؟ هل هى خشية من الله لأنَّ الحاكم طبَّقَ شرائعَ أخرى إلى جوار شرع الله؟

    ونقول على العكس، النَّاس يهجرون دين الله بسبب القدوة السيئة التى تستخدم الدين كغطاء للفساد والإفساد، وبسبب الإكراه أكثر مما لو خُيِّروا (1200 ملحد - وفي بعض الروايات مليون - في السودان بالتزامن مع التطبيق الشائه للشريعة). ولن يكون عدد المطبقين للشريعة الإسلامية على أنفسهم بشكل اختيارى أقل من الآن بأىِّ حال من الأحوال؛ بل على العكس سيتضاعفون بشكل كبير للغاية؛ ونحن نراهن على ذلك. فقط يجب على النَّاس أن يعملوا بكلَّ ما أوتوا من حصافة فكرية لمنع تشويه المعتقدات وطمس مقاصدها السمحة والعبث بها من قِبَلِ المستهزئين بها وردِّ قدسيتها لها.

    2- سينتقل النَّاس من أُفقِ الأيديولوجيا الضيق الدموى إلى أُفقِ المناخ المدنى السلمي الخصيب، الذى تنشط فيه حرية الفكر المحرَّضة بالعقل الحر والتفكير الحر بغرض إنتاج المعرفة الدينية الحقة الناصعة، وتطوير الفكر الدِّينى وإخراجه من حالة التكلُّس التى هو فيها الآن. والجدير بالذكر أنَّ الشريعة الإسلامية لم تُنْعَتْ بالسمحاء، إلاَّ لأَنَّ مِضمارَها هو الفِكر الحر المتأتى من التخيير. ولم تتطور الشريعة الإسلامية في موطنها عبر قرونها الطِوال إلاَّ لأنَّ أهلَها أكثرُ إشتغالاً بالسلطان من الإشتغال بالفكر الحر كما جاء بعاليه.

    3- وفى إطار الدولة المدنية لن يُسمح بأى نوع من أنواع العنف الدينى أو الثقافى أو الإثنى أو اللغوى، أو العنف الأيديولوجى/السياسى/الإقتصادى أو الجسدى أو اللفظى المُجيَّر لخدمة أى شرخ فى البناء المدنى، وسوف يُفسح فقط للفكر الحر والتفكير الحر ليكونا مُدْخَلَيْنِ مُهِمَّيْنِ فى مجال المعرفة المعلومة الأدوات فى إطار الدولة المدنية.

    وبهذه الكيفية سيكون بالإمكان حل كل مشاكل السودان المصيرية بأُفقِ الدولة المدنية ذى القدرة الحقيقية على حماية التنوع فى البيئة السودانية الغير متوفرة لدى الدولة الدينية والدولة العلمانية معاً. وبالتالى فى إطار هذا الأفق المدنى يمكن ان يعود الجنوب إن رغِب، ومن ثم نسعى إلى آفاق جديدة من التماسك والاستقرار والانطلاق نحو مستقبل مزدهر.

    4- فى إطار الدولة المدنية، ستنتهى حالة النفاق الدينى/الإجتماعي وتطبيق الشريعة على اللا - إخوانويين دون الإخوانويين، وسيُحاسب النَّاس بالشرائع التى اختاروها ومضمنة فى سِجِلِهِم المدنى، ولا مجال هنا للمحاباة والمحسوبية فى إطار القضاء المستقل والسلطات الأخرى المستقلة. وليس ثمة خوف فى أن يقل عدد النَّاس المناصرين للشريعة الحقة ولا توجد أىُّ أرضية لذلك؛ فالمسلم المُحَقِّق لن يتراجع عن تطبيق الشريعةِ الناصعة عليه اختياراً فى إطار الدولة المدنية العادلة، إذا ما قارنا تطبيقها الشائه عليه إكراهاً فى غيرها حيث يُستثنى القوى من التطبيق والضعيف يُقام عليه الشرع.

    بل على العكس، فيومئذٍ سنجد كثيراً من منافقي الجبهة الإسلامية القومية سيختارون قوانين غير قوانين الشريعة الإسلامية لتُطبق عليهم (وربما غادروا السودان إلى بلدان لا تُطبَّق فيها الشريعة الإسلامية من الأساس)، طالما أنَّهم يتحايلون على تطبيقها على أنفسِهم الآن ويُطبقونها على اللا – إخوانويين فقط. ومن هنا يجب أن يعلم الجميع أنَّ الإنقاذ ترفض الدولة المدنية؛ لا لأنَّها "إسم دلع" للعلمانية وقد جاء بها الشيوعيون كما تروِّج هِىَ لذلك - وقد فنَّدنا هذا فى الروابط بعاليه - ولكن لأنَّ الشريعة الإسلامية حينما تكون فى يد القضاء المستقل والنزيه فى إطار الدولة المدنية، ستُطبَّق على الوجه الأكمل على من اختاروها، وبالتالي سوف تطال أهل الإنقاذ الذين اختاروها أجمعين قبل غيرهم على حسب إفادة د. حسبو عبد الرحمن الذى قال: "كلُّ أعضاء حزبه فاسدون".

    5- حينما تكف الدولة عن حشر أنفها سلباً فى طريقة تدين النَّاس وإثنياتهم وثقافاتهم ولُغاتهم، تخمد الفتن والحروب القائمة على أساسها، وتتحول ميزانية هذه الحروب بالنسبة للدولة إلى ميزانية مواطنة؛ ميزانية مدنية تخدم إيجاباً ذات التنوع الدينى والإثنى والثقافى واللغوى.

    6- فى إطار الدولة المدنية؛ دولة المواطنة والديموقراطية؛ ستكون البرامج الحزبية (خاصةً في إطار الكيانات السياسية الفتية الجديدة: حزب العمال والقوى الحديثة السوداني، حزب الحرية والتغيير، حزب سودان المستقبل (Sudan NextGen)، إلخ) ملحمة من التنافس على كيفية خدمة كافة المواطنين (ليس حكراً لأغلبية على حساب أقلية ولا العكس)، وستكون مُكرَّسة لعكس استحقاقاتهم من حقوق المواطنة وواجباتها بما يخدم التوازن الكلي للمجتمع، ولن تكون مكرَّسة تمكيناً للأنا السياسية أو الاقتصادية أو الأيديولوجية أو الإثنية أو الجهوية أو اللغوية أو لمطامع حزبية أو فردية؛ فالكلُّ رابح فى ظل الدولة المدنية وبشكلٍ ديمقراطى متوازن ومستدام وفي كامل السلام الإجتماعي.

    خاتمة

    لقد قصدنا من السرد المطوَّل أعلاه (وأنا هنا ألتمس العذر من القارئ الكريم)، أن نثبت أنَّ الدولة المدنية منتج سوداني خالص، وهو أحد صادراتنا للعالم في مجال العلوم السياسية، وله ميزاته على الدولتين الدينية (بالقدر الذي يتيح حرية الاعتقاد، وتطبيق المعتقد دون عسف أو تمييز أو متاجرة بذلك المعتقد) والعلمانية (التي تمنع بعض ممارسة المعتقدات بما يرفع عن المعتقدين حرجهم العقدي) بكونه يجعل الدين أعلى القيم في الفضاء المدني، وفي نفس الوقت يصونه بعيداً عن الدولة والسياسة، وعن هوى السياسيين المنحرفين.

    حسين أحمد حسين،
    كاتب وباحث اقتصادي، اقتصاديات التنمية.
    __________
    *(دكتور أحمد زايد: "ماذا تعنى الدولة المدنية"، الشروق الألكترونية، 26 فبراير 2011).








                  

العنوان الكاتب Date
حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي تأشيري حسين أحمد حسين08-06-19, 06:20 PM
  Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-07-19, 00:25 AM
    Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-08-19, 03:29 AM
      Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي عبد الصمد محمد08-08-19, 01:34 PM
        Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-09-19, 00:20 AM
  Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي محمد حيدر المشرف08-09-19, 05:22 AM
  Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي محمد حيدر المشرف08-09-19, 05:27 AM
    Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي adil amin08-09-19, 07:38 AM
      Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي جمال المنصوري08-09-19, 10:45 AM
    Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-09-19, 11:36 AM
      Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-09-19, 11:20 PM
        Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-10-19, 02:21 AM
          Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي جمال المنصوري08-10-19, 05:16 PM
            Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-10-19, 11:34 PM
              Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-12-19, 07:24 PM
  Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي محمد حيدر المشرف08-13-19, 05:28 PM
    Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي جمال المنصوري08-13-19, 06:39 PM
    Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-13-19, 10:29 PM
      Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-13-19, 11:04 PM
        Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي جمال المنصوري08-14-19, 10:16 AM
  Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي محمد حيدر المشرف08-14-19, 02:54 PM
    Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي كمال عباس08-14-19, 03:14 PM
      Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي كمال عباس08-14-19, 03:23 PM
        Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي كمال عباس08-14-19, 03:29 PM
          Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي كمال عباس08-14-19, 03:35 PM
            Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي كمال عباس08-14-19, 03:46 PM
              Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي عبداللطيف حسن علي08-14-19, 05:16 PM
                Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-14-19, 09:51 PM
                  Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-15-19, 00:16 AM
                    Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي كمال عباس08-15-19, 01:43 AM
                      Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي كمال عباس08-15-19, 01:47 AM
                        Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-15-19, 08:11 AM
                          Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-15-19, 08:19 AM
                            Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-15-19, 08:25 AM
                        Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-15-19, 10:22 AM
                      Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-15-19, 09:52 AM
                Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-15-19, 09:00 AM
              Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-15-19, 08:55 AM
                Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي كمال عباس08-15-19, 12:38 PM
                  Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي كمال عباس08-15-19, 01:01 PM
                    Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-15-19, 10:45 PM
                    Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-15-19, 11:48 PM
                      Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-17-19, 06:12 AM
                        Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي جمال المنصوري08-17-19, 06:47 AM
                          Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-17-19, 03:46 PM
                            Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-17-19, 04:56 PM
                              Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-17-19, 07:23 PM
                                Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي جمال المنصوري08-18-19, 06:45 AM
                                  Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي جمال المنصوري08-18-19, 07:10 AM
                                    Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-18-19, 06:17 PM
                                      Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي جمال المنصوري08-19-19, 05:42 AM
                                        Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-19-19, 01:32 PM
                                          Re: حول مفهوم الدولة المدنية: مدخل سوسيوسياسي حسين أحمد حسين08-19-19, 06:51 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de