– لندن – بريطانيا هذه المحاولة الانقلابية، رغم إحباطها للمعنويـات، أفرزت صدمتها صدائد عدة: في مخاطبة السيد رئيس مجلس السيادة القوية للقوات المسلحة في وادي سيدنا والذي نقلته قناة "الحرة"، والتي أثلج بها صدورنا فيما عرّف فيها ما معنى الوحدة ورباط الهوية، والذي هو أمرٌ لا زال أغلب المواطنين قد التبس عليهم تمييزه في تجارب الحكم الوطني الكسيحة التي فيها جهل فيها الحكّام ماهية القومية السودانية وكيف تقويتها، فقوّضوها ورهنوها للدول الطامعة والمتربصة باستقرار السودان، وموقع القوات المسلحة ورصفائها من حملة السلاح من الدعم السريع وقوات الأمن والقوات الخاصة من ذلك ونزيفها في ما ترى من تدهور في حال السودان، وأكدّ فيها بداهةً، أن القوات المسلحة مصلحتها وقوّتها في استقرار الوطن ووحدته، والتي لا تأتي إلا بقبول أهله بالحوار والتشاور في حل معضلات الأمة، ورأب الصدع ومنع الانشقاق، وشرطها الأوحد للوصول بالوطن إلى مصاف الدول المتحضرة المستقرة. إن من أسباب محاولات الانقلابات المتكررة هم "السياسيين الذين أهملوا المواطن في معاشه وخدماته الاساسية وبانشغالهم بالصراع على الكراسي وتقسيم المناصب مما خلق حالة من عدم الرضا وسط المواطنين مما اضطر الكثير منهم إلى الهجرة خارج البلاد وبيع بعض ممتلكاتهم لمجابهة الحياة، وصحيح أن أغلب ذلك حدث في زمن الإنقاذ الأولى والإنقاذ الثانية، ولكن رغم أنهما أتيتا من عيب في الثغرات الأمنية في القوات المسلحة، إلا أن مصادر تخطيطها كان في كلتا الحالتين من محاور خارجية نفذها لها عملاؤها من الداخل، وكلهم من المثقفين والملمين علماً وثقافةً بكل الفلسفات التي تبين لهم الحق من الباطل ومن يمنون من العسكر النرجسيين، وكانوا في كلتا الحالتين يختارون، وبجرأة مخجلة الباطل فيها ويوشّحوه بتعابيرهم مثل القفز بالعمود، وتطوير الريف الذي حطّم الريف والنسيج العرقي في البلاد في الإنقاذ الأول، ومثل "لا لدنيا قد عملنا" والدفاع الشعبي في الإنقاذ الثاني، وليس للجيش فيها دوراً سياسياً بعد الانقلاب، فالحكومات المدنية التي انبثقت منها وأدارتها مشهودٌ بها تكونت فقط من صائدي الكراسي وخبراء النهب والاختلاس، وحصّنت نفسها من الجيش بمليشياتها من منسوبيها في القوات المسلحة كالدبابين مثلا، وكتائب الظل، ومن خارجها كالدفاع الشعبي، ثم من المرتزقة (والذين وصفناهم دوماً بأنهم مماليك الرق الإسلامي) كالجنجويد، ثم تطويره إلى الدعم السريع. هؤلاء الانتهازيون أعانوا ساستهم الذين دخلوا المغامرة لمصلحتهم، بأسوأ أساليب توفير الخبرات الفاسدة، والتي أحجم النظيف منها من الانصهار في مفاسدها، دخلوها تحت أسلوب التهديد من أجل الابتزاز الذي مارسه النظامان في توفير الكفاءات من الضمائر التالفة لمحاربة كل من يقف في طريقهما، ومن المنقلبين سريعاً، وفي لحظة، من خلقٍ وفكرٍ إلى خلقٍ وفكرٍ مغايرين. هذا صديدٌ مصدره السياسيون المدنيون، كان ينقح تحت الجروح المثخنة بالتخبط والكيد، أبانه السيد عبد الفتاح البرهان في خطابه، وفيه ما يُحدد بوضوح مسئولية من تكون هذه التخثرات التي تغوص فيها دكتاتوريات الأنظمة وليدة الحركات الانقلابية، مسئولية المدنيين أم العسكريين؟ والصديد الثاني الذي اندلقت سمومه من بواطن الجسم المريض للعقلية السودانية، هو ما فاض في جسد الثورة السودانية من مكوّناتها المدنية، وخاصةً أحزابٍ بعينها، حيث كان صراعها للكراسي والمكاسب لا يحجبه حياء ولا يصدُّه تفكّرٌ ولا يقظة، ولو هنيهةً. هذه المكوّنات المدنية من شدة انشغالها وسكْرِها من نَفَس الصراع الذي ينبّثُّ في تنابثهم، منذ نشأة الدولة السودانية، من الفكر السياسي الانتهازي الذي تولّد من سقوط الامبراطوريات الإسلامية بسبب سياسيّة إسلامها وبعدِه عن تعاليم الرسالة الإسلامية، والذي لم يزيدوا عليه علماً ولا تجربة – فقط تقليد وتقمص شخصيات السلف الروائية. وصديدٌ أخطر في جسد الأحزاب الكبيرة من الطوابير الخامسة المتولدة منه، والتي تضع نفسها لعبةً "يويو" في أيادي المحاور الأجنبية لتتقبّل لبنتهم بالعمالة الصريحة التي نراها تطفح الآن على سطح مستنقع الثورة، يتدلسون لها لتمنيهم بالتمكين وتخدعهم بحيل المرايات والدخان، وهو لعب الحرفاء من الماكرين الدوليين. هؤلاء أكثر خطراً من كلّ من ذكرنا، فهؤلاء فيروسٌ في داخل أحشاء الوطن وإدارته في خارج الوطن، وهو في أضعف الأدوار يقوم بخلق الشقاق وجر الخيوط على العيون، وفي أسوئها يقود للحرب وللدمار..... وهناك صديدٌ ينصبُّ من مناعة الهوية، ويسرطن الديمقراطية ويبثُّ شللاً في التفكير المستقيم، والإرادة والوعي الحر: ذلك هو نداء السُّذج من المثقفين الذين استثمروا ثقافتهم فقط لأكل العيش وليس لرعاية الأمانة التي اولاها إياهم أهلهم. الأمانة التي أمر الله تعالى بالحذر في حملها، فحملوها هوناً. ينادي هؤلاء ملء الفم وعلى مسامع الأشهاد، أن السودان يحتاج لانقلابي أمين وخيّر ينتزع السودان من الهوة التي يسقط فيها إلى بر الأمان، وإصلاح هنّاته، ثم تسليمه للشعب في ديمقراطية وردية!!! أليس هذا السيناريو هو نفس الذي لبسه مدبرو الكم وعشرين إنقلاباً منذ الانقلاب الناصري المشهور الذي سرطن كل جيوش العرب والعجم؟ يدخلون بذلك الحوار الجذاب، مخاطبين عزول الشعب من مجهود الحكم والشورى، لأن الضمائر ميته بالاستعمار الطويل وبالرق الإسلامي المترسخ في دمائهم، فرحين بعقيدتهم بأنهم شريفيين، من سلالة أهل البيت عن طريق الأمويين أو العباسيين، وبعضهم عن طريق الفاطميين والعثمانيين، وفوق ذلك لعبت بعقولهم العادات والطقوس الإفريقية في الدجل والتعوذة فزادتهم متاهاً. وكما القول المشهور "ذهبت لبلاد المسلمين فلم أجد الإسلام، وذهبت لبلاد غير المسلمين فوجدت الإسلام"، هذا ما يبرهن نفسه في هذه اللحظة في الانتخابات الألمانية، والتي تدافقت تحليلاتٌ دسمة في تقييم دور ألمانيا، كما وحوارات أخرى في إطلاق سراح مديرة هايواوي الصينية والتي كانت معتقلة في كندا مع آخرين، وبالمقابل إطلاق الصين لشخصيات اقتصادية أمريكية، في نزاعٍ دام ثلاث سنوات، وفي نفس الوقت أزمة الغاز الذي تسيطر روسيا على تمويله مما شلّ الحركة الاقتصادية في الغرب الأوروبي، وفي ذات الوقت الأزمة التي نجمت بين فرنسا وحلفائها من الأمريكان والإنجليز والأستراليين في إلغاء الصفقة التي تعاقدوا معها فيها بمبلغ 60 مليار دولار لبناء غواصات ذرية لحراسة بحر جنوب الصين، وحولوها لأمريكا وبريطانيا لبنائها، مما أغضب فرنسا وهز العلاقات بينها وبين أمريكا وبريطانيا وأستراليا. هذه الأحداث، وفي تحليلاتها الغنية، أبرزت كثيراً من أسرار الاستراتيجية الغربية في عمق الاستقرار الذي تميّزت به، والتي أتمنى لو استفاد منها، وفي هذا الوقت بالذات، السودانيون الذين يحتاجونها في وضع البلاد الحالي، والتي أجد فيها حلاً لصيقاً بتجربة ألمانيا، وحتماً هي وليدة الفكر التنويري الذي به انبنت أوروبا من عهد الاقتتال والخلاف إلى عهد السلم والتنوع المسالم. إن ما برز في انتخابات ألمانيا اهتمام الغرب بحمل الأمانة التي حذّر الله فيها من الإسراف في التهاون فيها الذي وصفه بالظلم والجهل.... أن الشورى التي أوصانا بها الله نفذتها ألمانيا وتمسكت بحرفياتها المستشارة انجيلا ميركل، وبذلك أسموها "أم ألماني". نظام انتخابات ألمانيا مبني على تنقيح ديمقراطية تتباعد بأبعد حد من ظلم الأقليات، ومن إسكات أي صوت، وفي نفس الوقت بتأمين حقوق الوطن، بذلك أمّنت كل الهوية التي يمكن أن تسميها "ألمانيا"، وتتكون الحكومات دوماً بالإئتلاف وليس بحكم الحزب الواحد، أو الحزبين. فالانتخابات تقود "البندستاق"، وهو ما يعادل البرلمان، يتم تكوينه ب 50% من الدوائر الانتخابية والتي تمثل عامة الجمهور في أوطانهم الصغيرة المرتبطين عن طريقها. و50% من جملة الأحزاب التي تمثل التنوّع الفكري في البلاد. وبعد تكوين البندستاق، تبدأ مشاورات الاستشارية لاختيار المستشار، وقد تأخذ تلك زمناً قد يطول، ولكن الشعب مقتنعٌ بتمثيله صادقاً، ويبقى الأمر في أي مستشار يمكن الرهان عليه بالنجاح. ليكون المستشار ناجحاً أو ليبدو من برنامجه ناجحاً، يجب أن يسعى لإزالة الفوارق بين الناس والأحزاب، ويجب أن يكون متجاوباً مع المعطيات التي تقلل الأعباء من المواطن للعيش الكريم. أما السياسة الخارجية فيتبع فيها المستشار ما لا يزعزع الأولويات التي وردت. بهذه الطريقة تتوحد الأمة. وبهذه الطريقة تُبعد الأطماع الخارجية والفتن. وبهذه الطريقة لا ينشأ تهديد يتطلب دخول القوات المسلحة أو حالة الطوارئ لحماية الدولة. عيبه أنه يبعد الدولة من القيادة الأممية بثقلها الكامل، ولكنه طبعاً أخف الخسائر، فكيان الدولة ووحدتها وتماسكها أهم من كل ذلك. والسيدة ميركل أوفت ذلك وزادت عليه، ولكنها باستيعابها مليوناً من السوريين، رغم أنه ساعد في حل مشكلة أممية، إلا أنه تقريباً أدى إلى نهاية أسطورتها، والتي دامت طويلاً. العالم اليوم ينظر إلى تزحزح الدول الكبرى في محاولاتها إعادة رسم النفوذ الدولي. ولكننا نحن لا نملك ما يدخلنا في ذلك، فقط الترقب للدخول في أو الخروج من محاور، أو الابتعاد الكامل، ليس إلا. نحن في السودان شعب متعدد الأعراق، ومتعدد الديانات والمعتقدات، ولسنا متعددي الأحزاب أكثر من فتاتٌ لأحزابٍ طائفية أو راديكالية، تحتاج إلى ثورة ثقافية تنقّح أصولها، فأكبر طائفتين هما الأنصار والختمية، وكلاهما مدّ لأصل لا صلة له بالأرض السودانية ولا بأعراقٍ محددة. كل تأريخ السودان الحديث والقريب كان يتمحور في تجارة الرقيق وسيطرة تجار الرقيق من المماليك الألبان وغيرهم من الأفارقة، وكثير من السودانيين كانوا ضحايا رق جلب من أدغال افريقيا. العرق الوحيد الذي نبت في السودان ولم تدخله عرقيات الرق هو العرق النوبي. ولكن منطقة السودان وإثيوبيا تعتبر المنطقة التي نما فيها الإنسان العاقل "الهوموسابيان" الذي ابتدع الزراعة وتربية الحيوانات، ومنها انتشر على العالم. فالسودان لا تنقصه هوية من ناحية ارتباط أصوله بالأرض، بل هوية أنقى من أي هوية أخرى في العالم، ولا ينقصه التأريخ الأصيل بالمثل كونهم الفراعنة الأول المؤسسين للحضارة الفرعونية. هذه ليست معضلة لنغوص في أسنها. إن الفتنة بدأت بانحراف الجيش تقليداً لثورة الجيش المصري في ثورة يوليو، وانتشر كالنار في الهشيم على جيوش العرب والعجم طمعاً. مع أني أؤيد البرهان في حديثه عن موقف المكون العسكري في حماية الثورة، وعن تسلل الأحزاب الآسنة في عظم مكونات الثورة المدنية، إلا أنني أذكره بأن التعفن الذي ما زال موجوداً في القوات المسلحة والمسئول عن الدماء المسفوكة والسيطرة على اقتصاد البلاد، والحاجة لتنقية الدعم السريع والحركات المسلحة مما تدنّست به بالرق الحديث، يجب الاعتراف به والعمل على نزعه، كما واتخاذ التعديلات اللازمة لتواجد القوات المسلحة لتكون في الأقاليم قريبة من مناطق الخطر على الهوية، في الحدود في الخزانات، والمنشآت الاقتصادية الضخمة، هي ومصانعها الحربية. ويمكن لرئاسة القوات تكون في العاصمة لحراسة والتنسيق مع الإدارة المدنية للدولة. ولا يجوز للصحافة السماح بالإساءة إلى الجيش السوداني، فمن تلاعب بهوية البلاد هم جماعات معينة حركها دوماً المكون المدني من السياسيين السودانيين أو الأجانب، وأهمل أمرها المثقفون الذين كان عليهم الانشغال بذلك الهاجس القومي الهام بدلاً عن التفنن في تكوين الأحزاب الشكلية التي تناغم مثيلاتها في الدول المجاورة، وليس منها ما قدم خيراً لهذه الدولة لسببٍ واحدٍ ووجيه، لأن هوية الدولة كما أشرنا سابقاً ليس لها في العير ولا في النفير حالياً مما يدور في المحاور العالمية، خلاف الابتعاد من التورط مع أيٍّ منه (التورط، وليس التعايش مع).
عناوين مقالات بسودانيز اون لاين الان اليوم الموافق 25/9/2021
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة