ثمة اتفاقاً بين كثير من أهل النظر أن العقل الرعوي هو الذي يقعد بالسودان. وجاء الدكتور النور حمد متأخراً نوعاً ما إلى تبني هذا الرأي. فمنى أبوزيد وعبد العزيز البطل كلاهما ذم هذا العقل المحبط قبله. فمنى تراه عقلاً ماضوياً مبخساً للحاضر والمستقبل ومنصرفاً عن تدبر سنة الحياة وتعاقب الأزمنة. ومن رأي البطل أن ضعف ثقافتنا الاجتماعية عائد إلى هذا العقل. ويضيف أن من اخص صفات البداوة "التنقل والترحال" الذي يمحق الثقافة. ورأينا دكتور النور في حلقات لنا مضت يحذو خذو منى والبطل. فهو كمن ينكر على الرعاة زينة العقل لأن عقلهم، من فرط مقاومته لنور العقل والحداثة والعدالة، كأن لم يكن. فهم بلا عقل لأن مثل عقلهم يحسب عليهم لا لهم. أهل الحضر، الذين جاء منهم أكثر صفوة النظر عندنا، سيئو الظن في ظعن البادية أي ترحالها. ويقولون عنها في الإنجليزية " roaming ". وأفضل ترجمة لها ما وجدته عند الأستاذة رقية وراق عن والدتها وهي "السواجي واللواجي" بإمالة الشايقية المعروفة. وتقال السواجة واللواجة كناية عن الحركة بلا هدف. ووأول من فتح ذهني لخطأ فكرة أن الظعن سير ضال في الخلاء هو عالم الأنثربولجي طلال أسد. وهو ابن الشيخ الأسد اليهودي البلجيكي الذي أسلم وحسن إسلامه بكتابات طيبة عن العقيدة. وأم طلال عربية سعودية كانت سكنت معه حيناً بمنازل جامعة الخرطوم. وكان درّس هو بهذه الجامعة في آخر الخمسينات وأول الستينات وحصل على درجة الدكتوراة برسالة عن نظم الكبابيش الاجتماعية والسياسية نشرها في كتاب عنوانه "الكبابيش البداة". ثم درّس في انجلترا وبلغ من تميز نظراته الاجتماعية أن اختطفته جامعة مدرسة العلوم الاجتماعية الجديدة بنيو يورك. وانقطع عن الكتابة عن السودان ولكنه برع في الكتابة عن أنثروبولجيا الدين والإسلام من زاوية ماركسية حاذقة ذات خطرات. ولا أعرف تناولاً ل "آيات شيطانية" (رواية سلمان رشدي المستفزة) بلغ الغاية من ذلك مثل مقالاته التي نشرها في كتاب "شجرة نسب الدين". نشر طلال كلمته عن ظعن البادية بمجلة السودان في رسائل ومدونات عام 1964 إن لم تخني الذاكرة. وأراد طلال من مقالته وصف مراحيل الكبايش وبيان العقلانية التي تتسم بها في الاستخدام الأمثل لموارد بيئتهم الشحيحة. وهي محاولة منه لرد الاعتبار للمعاش البدوي في وجه من يرونه نظاماً عفا عليه الدهر، وينبغي أن يرمي أهله طوبته إن أرادوا التحضر والتعلق بأسباب الحداثة. وجوهر قوله بعقلانية معاش البادية إن البداة يستنفدون الموارد الواقعة في نطاقهم استنفاداً. فهم يراوحون بين المراعي (التي يظنها صفوة الحضر سواجة ولواجة ساكت) للاحتفاظ بنعمهم والتحسب لزيادتها. يعيب خبراء التمنية على الرعاة أنهم مستهلكون لا يضيفون لتلك الموارد أو يجددونها. وكتب طلال كلمته هذه في مواجهة جيل خبراء الموارد السودانيين الأول مثل د. مصطفى بعشر ود. محيميد ومحمد عوض ممن استهجنوا البداوة كمعاش وعدوها وسيلة غير طبيعية للعيش. فهي لا تضيف للطبيعة حين تأخذ منها مما يطعن في كفاءتها الاقتصادية. ويتحفظ طلال على هذا المأخذ بقوله إن عجز الكبابيش عن تنمية مواردهم ليس عن سفه أو استهتار. فلهذا النقص أصل في طبيعة الموارد نفسها التي تتحكم عوامل الطبيعة في زيادتها ونقصها. وشبه عجزهم عن تنمية مواردهم بعجز تاجر في الأبيض من رصف طريقه للخرطوم لتثمير تجارته هكذا تطوعاً أو كفاحاً. يواجه الكبابش المسألة الاقتصادية التي تواجه كل باطش في سبيل العيش وهي استنفاد ما يليه من الموارد لبلوغ غايته. فهم يستثمرون أرضاً شاسعة شحيحة للحفاظ على المراح وتربيته. فمنطقتهم شبه صحراوية يغطيها رمل كثبانه سهلة. ومتوسط أمطار جنوب دارهم 200 ملميمتر بينما متوسط شمالها 100 مليمتر. ويقتصر المطر على شهور ثلاثة هي يوليو وأغسطس وسبتمبر. وهطولها في الشمال يتميز بالعشوائية من حيث حدوثه وغزارته. وعليه فهي بيئة محدودة. ولما كان على الكباشي أن يحافظ على مراح متنام وسط هذه الشحاحة لزم عليه أن يستخدم هذه الموارد المحدودة التي تليه بكفاءة. فالظعن هو حيلة البادية هذه لاستنفاد هذه الموارد بكفاءة وإحسان. فالترحل لا هو عشوائية ولا حتى "هواية التنقل". فالكبابيش ليسوا غافلين عن اقتصاد الاستقرار كما يتبادر للذهن. أو أنهم أخذوا للترحال "عزة عرب منهم" كما يقال. فوسطهم يقيم نحو 22 ألف مزارع (1960). ولم يغرهم هذا بالاستقرار. والكبابيش لا يخلون من حزازة واضحة ضد الاستقرار. بل سمعتهم يستعجبون للمزارع يشقى موسمه كله وقد يأتي الجراد فيعصف بزرعه. فهم مطمئنون للرعي لأنهم يجيدونه وزمامه في يدهم وقطوفه دانية. فقد كانوا يصدرون في الستينات 40% من جملة ما يصدر من جمال إلى مصر. وتحدي الراعي الرشيد هو جفاف الصيف. فسعيته تطلب مزيداً من الماء مما يحصرها في آبار معلومة ويترتب على هذا انحصارها في حيز مراع ضيق. فالسعية في الصيف هي في أحرج أوقاتها. وتحدي الراعي الرشيد أن يجتاز بها هذا المطب لمواسم الخريف والشتاء السخية نوعاً ما. وعلاجاً لتحدي الصيف تنقسم العائلة صاحبة المراح إلى مجموعتين: النساء والأطفال والعجائز (التقيلة) من جهة فتلزم الدمر (موطن الإقامة) مع الضان والماعز بينما يتبع الرعاة الشباب مراح الإبل إلى حيث المراع الطيبة جنوباً في ديار قبائل أخرى في وسط كردفان ودارفور ل "تمجيدها" في الكلأ الذي تنبته أمطار تلك البوادي الباكرة. وبهذا الحيلة تؤخذ الجمال من مراعي التقيلة (النساء والأطفال والعجائز) فيخليها للضان والماعز والبقر. ويقع هذا الانقسام في الأسرة في الشتاء أيضاً. وقد كتب حسن نجيلة عن رحلة الشتاء، "الجزو"، هذه في بطن الصحراء كتابة مشوقة فليرجع لها القاريء إن أراد. لن استطرد في عرض مقالة طلال في صحيفة سيارة. ولكن النقطة وضحت. فاقتصاد الظعن عقلاني تفتق الرعاة فيه عن حيل شتى لتنمية مراحاتهم والحفاظ عليها في مناطق موصوفة في عرف الحداثة ب" الشدة". ولم تقف هذه الحيل عند هذا الحد. فقد قرأت كلمة للاستاذ معتز محمد خليل (السوداني 7 أكتوبر 2008) عن استخدام الأبالة بالبطانة للموبايل لتحديد مواقع الماء والكلأ. وستجد في كلمته كيف حل هؤلاء الأبالة معضلة شحن الموبايلات في خلاء بلا كهرباء. يبدو أن مشكلة السودان ليست في سيادة "العقل" الرعوي في أدائه السياسي والاجتماعي والاقتصادي بقدر ما هي جهلنا بمهارة هذ ا العقل في لجم الموارد التي بمتناوله في المكان القفر واستئناسها بما في ذلك الموبايل. إذا كان ثمة "عقل" أفسد السودان جداً وأهلكه بالهرج فهو "العقل" البرجوازي الصغير. ولنا عودة إلى هذه الآلة الحدباء التي هبطت بالسودان إلى درك منذ ثورة 1964.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة