Post: #1 Title: من العروض إلى اللحن: فوائد عملية وتطبيقية من بحث الحقيبة في الموسيقى السودانية (حلقة 1)🌹🔥 Author: محمد جمال الدين Date: 11-06-2025, 08:02 PM
من العروض إلى اللحن: فوائد عملية وتطبيقية من بحث الحقيبة في الموسيقى السودانية (حلقة 1)🌹🔥
مع تحليل قصيدة "يا ملهمة" لعبد الرحمن الريح
يمكنني الزعم ان من أبرز الابتكارات العلمية في بحث الحقيبة السودانية الربط البنيوي بين علم العروض التقليدي وفن تلحين الأغنية الحديثة؛ يبيّن هذا التحليل كيف يمكن تحويل نظام التفعيلات الشعرية (كـ"فاعلاتن أو مستفعلن" ..) إلى بناء موسيقي عملي ملموس. فالتفعيلة ليست مجرد وحدة قياس شعري كمية، بل تتحول إلى وحدة إيقاعية ونغمية يتسنى تمثيلها موسيقيًا.
خطوات التفعيل العملي والرموز: تفصيل التفعيلات كوحدات إيقاعية، حيث تتشكل من حركات ("/") وسكنات ("0") تحدد إيقاع القصيدة. تقابل الحركات نغمات قصيرة أو ضربات إيقاعية نشطة، والسكنات نغمات مطولة أو فترات صمت. يتم وضع كل تفعيلة على خط زمني موسيقي (Timeline) ضمن برامج التأليف، أو يؤديها الفنان عبر الآلات أو الصوت.
مثال تطبيقي من قصيدة "يا ملهمة" لعبد الرحمن الريح:
القصيدة ذات بنية زجلية تامة تضم مطلعًا، فـ"أدوار" متنوعة مع أقفال تختلف قوافيها وأوزانها، وتنتهي بخرجة تعيد قافية ووزن المطلع والأقفال، وفق نظام عرضي متناغم يخلق صوتًا إيقاعيًّا محكمًا، يدعم جرس الكلمات ويكسب اللحن تماسكًا فنيًا كاملًا.
الأمثلة التحليلية في "الملهمة" تؤكد تحقق الاتساق الشكلي بين المطلع، الأقفال، والخرجة في القافية والوزن، رغم التنويعات في أوزان الأدوار وقوافيها.
هذا الاتساق العروضي يسمح بتمثيل التفعيلات كوحدات لحنية: مثلاً من باب البيان في وزن بحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فاعلن)، تُغنّى كل تفعيلة بنغمات متجانسة ولكن مع إمكان التنويع، فتتحول كلمات القصيدة إلى لحن إيقاعي متماسك ومتجدد.
أثر ذلك على الإبداع الموسيقي: يوفر التقسيم العروضي قالبًا إيقاعيًا واضحًا للموسيقي، يمكن تكراره أو التلاعب به عبر سرعات مختلفة وإيقاعات متنوعة، مما يضيف ديناميكية وحركة للحن دون الإخلال بأصالة الوزن. يحفظ الانسجام بين الوزن الشعري واللحن، ويسمح للأداء الصوتي بالتعبير عن نغمات الصمت والمد بدقة معبرة، كما نراه في أداء التاج مصطفى الذي يبرز خصوصيات الدور الصوتي. في أغاني الحقيبة المعاصرة، يعزز هذا الفهم من قدرة الملحنين والمغنين المعاصرين على ابتكار ألحان تمتزج فيها الأصالة بسلاسة مع الحس الموسيقي الحديث دون الوقوع في الجمود أو التعقيد المخل أو الوقوع في أخطاء مميتة في اللفظ والتفاعيل/الوزن.
التدريب والتقنية: مع التقدم التكنولوجي، يمكن دمج هذه التفعيلات في برامج التأليف الموسيقي مثل GarageBand وFL Studio، حيث يمكن برمجتها نغمات وإيقاعات متكررة أو متغيرة بحسب الرغبة، ما يتيح تحديث التراث الموسيقي للحقيبة وإدماجه في النمط الموسيقي العالمي مع حفظ الهوية السودانية.
وهنا نظرة تقنية تطبيقية في زجلية يا ملهمة (حقيبة) لعبد الرحمن الريح لعبة من سبع خطوات أو شيء للمتعة (نشر عام 2019 أول مرة)
من أشغال بحث الحقيبة... الملهمة زجلية تامة أي معيارية. تبدأ الزجلية كعادة الزجل التام بمطلع فـ"أدوار" تتخللها أقفال وتنتهي بخرجة. وتكون الخرجة في قافية ووزن المطلع والأقفال وتختلف قوافي الأدوار كما أوزانها. وهذا ما حدث بالضبط لدى "الملهمة".
سنراها الآن في سبع أحوال من حيث التحقق من كونها زجلًا تامًا، كما النظر في بنائها النظمي وتفاعيلها ووزنها واللحن والإيقاع، ونسمعها معًا مغناة بصوت الفنان التاج مصطفى.
الآن لنتحقق من زعمنا كون هل فعلاً المطلع والأقفال والخرجة من ذات القافية والوزن دون خلل مطلقاً وفي كمال الإتساق في المقابل فإن الأدوار تأخذ قوافي مختلفة وفي كثير المرات أوزان مختلفة.. سناخذ آخر كلمتين من المطلع والأقفال والخرجة ونشوف معا وزنها والقافية:
(فاعلْ فعلْ = مستفعلنْ) في الوزن العروضي الكلي كما سنراه في مستقبل هذا السرد.
"3"
وهنا نضع المجتزأ من المطلع والأقفال والخرجة مفصول عن جسد القصيدة لنتحقق :من كمال القاعدة
المطلع:
ﻛﻴﻒ ﺍﻟﻌﻤﻞ كيفلْ/ عملْ فاعِلْ/ فَعَلْ
الأقفال:
شعر الغزل شعْرلْ/ غزلْ فاعلْ/ فعلْ
ﻣﻬﻤﺎ ﺣﺼﻞ ﻣﻬْﻤﺎ/ ﺣﺼﻞْ
فاعلْ/ فعلْ
الخرجة:
ﻳﺎ ﺭﻭﺣي ﻫﻞ
ﻳﺎ ﺭﻭﺣﻰ ﻫﻞ ﻳﺎ ﺭﻭ/ ﺣِ ﻫﻞْ فاعلْ/ فعلْ
ملاحظات: القصيدة زجلية قصيرة تتكون من مطلع تام وقفلين فقط ايضاً تاميين وخرجة تامة.. ذلك الإتساق المطلق يجعل جرس الكلمات ذا رنين عالي.. مع النأي عن حشو الكلمات القاموسية القادمة من التاريخ الذي حفلت واحتفت به كثير من زجليات الحقيبة.. فالقصيدة أقرب إلى العامية الوسطسودانية وهذا في حسباني ما يجعلها "مختلفة عن زجليات الرواد مثل برضي ليك المولى للعبادي وأحرموني لود الرضي" فبرغم أعتمادها على نظم لونية الزجل الاندلسي من حيث البناء فهي مثال للمرحلة الإنتقالية بين نظم الحقيبة والنظم الشعري الذي تلاها في أزمان مختلفة ومن أمثلته المعيشة أشعار إسحاق الحلنقي.
"4"
وهناك المزيد من الملاحظات: فبقليل من التأمل سنجد أن أدوار الزجلية الثلاثة كل واحدة منها تتكون من قافيتين مختلفتين وفي كل الأحوال تكون الأدوار من ذات الوزن الشعري.
لنعاينها هنا من جديد مفصولة عن مطلعها وأقفالها وخرجتها:
الدور الثالث كما الأول والثاني بدوره من قافيتين مختلفتين:
ﺁﻣﺎﻟﻰ ﻓﻰ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪا ﺗﺘﺤﻘﻖ ﺃﺣﻼﻣﻰ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪا
ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺠﻔﺎ ﺃﻟﻘﻰ ﺍﻟﺼﻔﺎ ﻭﺣﺴﻦ ﺍﻟﻮﻓﺎ
"5"
الوزن العروضي للملهمة وهو يمثل الإيقاع الذي ينبني عليه اللحن/الميلودي كما الهارموني/الموسيقى في الأساس. العلامة "/" = الحركة والعلامة "0" = السكون هذا التقطيع العروضي محاولتي الخاصة "ضمن بحث الحقيبة من مناشط السودان200) ولم يحدث من قبل حد علمي.. لذا وجب الإنتباه.
القصيدة مشحونة بالتنويع التفاعيلي ( مُسْتَفْعِلنْ "آن"/ /فاعيلنْ/ فاعلْ/ مفاعلنْ/ فعولنْ) دون الإخلال بالوزن والنسق النظمي الكليين فكل تلك التفاعيل خاضعة لذات منظومة العلل والزُّحافات . تستطيع أن تشهد ذلك بعزل الكلام عن إيقاعه كالتالي "أدناه" فيكون لديك نوتة موسيقية "إيقاعية" مكتوبة يستطيع أي شخص أن يجربها ولو هاوي ناهيك عن "مليجي" عظيم على اي آلة إيقاعية وستكون بالضبط هي من لحن الملهمة:
بالنظر إلى هذا التحليل لقصيدة "يا ملهمة" تكون نموذجا علميا وتجريبيا يؤكد انتقال علم العروض من مجال الشعر النظري إلى التطبيق العملي في صناعة النغمة والإيقاع. إذ تشكّل التفعيلات وحدة بناء إيقاعية تقع تحت لب الأداء الصوتي واللحن الموسيقي، مما يجعل من الشعر السوداني المرشّح الطبيعي للنغمات غير المصطنعة.
هذه المقاربة لا توفر فقط فهماً جديداً متقدماً لتركيب الأغنية الأغنية السودانية، بل تخلق معيارًا علميًا يمكن قياس الجودة الفنية عبره، وتساعد فناني الحقيبة وبل جميع المغنين على إنتاج أعمال ذات تفاوت موسيقي وشعري متجانس ومتماهٍ مع الهوية الثقافية المحلية في علميته. وهي واحدة من أهم الفوائد العملية لبحث الحقيبة.
القصيدة كما قد نلاحظ مقتصدة العبارة وأظن ذلك من أسرارها، مع حشد القوافي وتنويعها بشكل مباغت بين الفينة والأخرى بالنسبة للأدوار، بجانب الاتساق المطلق للمطلع والأقفال والخرجة في القافية والأوزان العروضية. وبهذا الاختصار أظننا نستطيع أن نطور مبادئ أكثر علمية حيال الشعر الغنائي ونظرية في النظر للبناء الداخلي وتفاعيل وأوزان كل أشعارنا العامية وليس الغنائية فحسب.
وإذا قد نملك مقاييس موضوعية "أو كما ينبغي" لا ذاتية وشخصية، وهذا طبعًا معنيٌّ به المشتغلون بالنقد الفني في المجال، بهدف الأمل في تخلق حركة نقدية أكثر علمية تستطيع أن تنهض بالفن الجديد في مستقبله عن دراية تامة ووعي علمي. مثلما وجب أن نملك مقاييس علمية كما قلنا في مقدمة هذا السرد في مجالات السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة بالمعاني الشاملة للعبارة وإلا لا سبيل للحضارة بمعناها الحقيقي وفق ما تقول لنا التجربة البشرية.. أو هو زعمي. والتحية من هنا للأرواح المبدعة ممثلة في الشاعر عبد الرحمن الريح والفنان التاج مصطفى.
مع ملاحظة أن محاولتي هذه مخصصة في المقام الأول للنظم الشعري والعروض الذي يتبعه لا اللحن (برغم أنه جزء من النظم فالغناء) ولا الأداء ولا المقامات الموسيقية — ذلك شأن آخر.. نحن هنا فقط نحاول تبيان الفائدة العملية والتطبيقية الممكنة من بحث الحقيبة.
واخيراً نسمع الزجلية الباهرة مغناة بصوت الفنان الجليل التاج مصطفى عبر تطبيق يوتيوب: