Post: #1
Title: عزيز النور يكتب إعادة هيكلة الجيش أم الدولة؟ (9 – 10)
Author: عزيز النور
Date: 03-04-2022, 12:27 PM
11:27 AM March, 04 2022 سودانيز اون لاين عزيز النور-السودان مكتبتى رابط مختصر
[email protected] المحلية في التفكير السياسي السوداني ..!! ربما تكون المحاولات الجارية الآن لصياغة وطرح مسودة أو مسودات تهدف إلى تأسيس ميثاق سياسي جديد (معلن) في السودان من قبل لجان المقاومة أو قوى حراك ديسمبر بصورة عامة، خطوة جريئة جدا وغاية في الأهمية قد تقود إلى بناء أرضية مشتركة بين مكونات السودان المختلفة بما فيها القوى الفاعلة كما في قوى الحراك و قوى المقاومة السودانية سيما في حال إنفتاح الأولى وإظهار المرونة اللازمة تجاه أهداف المقاومة السودانية بما يؤسس لقيام دولة مستقرة السودان، رغم إندساس بعض القوى السياسية التقليدية أو حقن وصفاتها القديمة في قنينات لجان المقاومة وحراك ديسمبر كما جاء في محتوى بعض المسودات المطروحة، خصوصا مقترح لجان مقاومة مدني. حيث لا تزال بعض القوى السياسية التي ركبت موجة حراك ديسمبر ٢٠١٨م – وتدعي العمل الثوري السوداني بالمقارنة مع القوى الحليفة للإستعمار - ساكنة غارقة في التفكير المحلي، كسيحة الفعل السياسي ومتربصة بالحراك الجماهيري رغبة منها في الإلتفاف على هذا الحراك بما يضمن عدم خروجه مما هو مألوف والتأكد من أن السودان يسير وفق ما خطته هذه القوى قبل عقود من الزمان ودون الإستفادة من حركة التاريخ البشري عموما والسوداني تحديدا، خصوصا مسألة إنتقال الصراع العنيف من مناطق عنف وحروب الدولة التاريخية في تخوم إفريقيا المركزية والشرقية إلى قلب الخرطوم مع إمكانية تجدده في أي لحظة. وقد أشرنا في العديد من مقالات السلسلة (إعادة هيكلة الجيش أم الدولة؟..)، إلى مسألة التفكير المحلي لدى القوى السياسية في الخرطوم والذي يشبه في الأغلب حالة الإنسان المحلي الذي يرى في منطقته وكأنها كل الكون، بحيث يفكر أحدهم كما الذي يعتقد أن "الأمطار قد عمت كل الكرة الأرضية لمجرد أن منطقته شهدت هطول أمطار غزيرة في يوم ما" دون إدراك أن سكان الأرض يعيشون في بيئات وطقوس وفصول مختلفة تماما، ويتبدى وجه الشبه في منطق السياسي السوداني الذي يعتقد أن السودان يتألف من مكون ثقافي واحد تمثل الخرطوم قمته لكونها الوجه المديني بنظره – وليس المدني بكل تأكيد -، ولكن الحقيقة أن الخرطوم ما هي إلا تجمعا حديثا في السودان تستمد إمتيازها من كونها مركز للإدارة الإستعمارية - لفترة لا تتجاوز المائة وعشرين عاما - قبل أن تصبح تجمع لبعض التجار الذين لا تربطهم في غالب الأحيان صلات تاريخية حقيقية ومباشرة بأي من تاريخ ومكونات السودان الأصيلة المنتشرة على إمتداد ربوعه، كما في بقايا المستعمر التركي والمصري وبعض المرافقين لهم من مستعمرات أخرى، بجانب من جلبتهم لاحقا ظروف الحياة المختلفة بسبب إتباع السلطات سياسة مركزية قابضة تجبر كل من يحتاج الخدمات الأساسية على الهجرة إلى الخرطوم إضافة إلى سياسات التهجير القسري للسكان السودانيين من خلال حرق القرى المتعمد بواسطة قوات الجيش السوداني و مليشياته جراء حملاتهم المعروفة بـ "تجفيف منابع التمرد" والتي هي في الأساس عمليات تفريغ السودان من أصوله الثابتة التي يمثل إنسانها الإفريقي قمتها. إن الإصرار على الأتيان بنظم جديدة و وافدة مقابل تعطيل وإزاحة النظم والعلاقات المجتمعية القائمة منذ أمد وجود هذه المجتمعات بدلا من تحديثها وتطويرها، يُظهر أن السياسي السوداني وكأنه يجهل أو يتعمد جهل عمق الحكمة وروح الثقافات السودانية وكذلك منظومة القيم والنظم المجتمعية التي ظلت تحفظ وتصون حياة الناس والعيش الكريم والتعايش السلمي رغم التباينات والإختلافات دون أي محاولة لصياغة أي من المجموعات أو إعادة إنتاجهم ثقافيا كما ظلت تفعل دولة الخرطوم بسبب التفكير المحلي المحض للقائمين لأمر السياسة الحالية الذين لا يرون إمكانية قيام دولة مستقرة تستوعب التنوع السوداني الأصيل، بل يعملون بإصرار على إعادة صياغة الناس وفق الثقافة العربية أو إقصاءهم وإبعادهم وقتلهم. وبدلا من محاولة فهم مقاومة مكونات السودان المستمرة في الدفاع عن ذاتها وحماية أصلها وثقافاتها ولغاتها وبالتالي رفض عمليات إعادة إنتاجها بغرض طمث ثقافاتها وهويتها الإفريقية، إلا أن قوى الخرطوم ظلت تترجم هذا الرفض بأنه مجرد (تمرد) يجب إخضاعه وقمعه عسكريا. وينسحب هذا الأمر على تقييم الفعل السياسي الصادر من غير نادي الخرطوم السياسي على أنه فعل معادي يهدد مشروع الدولة العربية القائم، وهو ما يجعل قوى الخرطوم وحكوماتها بنظر قوى المقاومة ومكونات السودان الأصيلة بأنها قوى غازية إستعمارية متعدية يجب مقاومتها حتي لو كلف الأمر الناس حياتهم، وهذا ما عكسته وتعكسه شعارات فصائل المقاومة المختلفة، بينها شعار الجبهة الوطنية الإفريقية (أيه إن إف) الجناح الطلابي للحركة الشعبية لتحرير السودان "نحن لم ولم ولن نستسلم أبدا"، وهو إقتباس من خطاب رئيس الوزراء البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية في مواجهة النازية. وإذا كان حراك ديسمبر يعتزم طرح مسودات لمعالجة المشكلة السودانية، فمن الضروري أن تستصحب هذه المسودات المشروعات السياسية لقوى المقاومة السودانية الحقة - حيث تتضمن هذه المشروعات تعريف المشكلة السودانية قبل الحديث عن حلول لها - بعيدا عن الأطر والقوالب الجاهزة التي ظلت العائق الرئيس أمام إيجاد وتأسيس أرضية مشتركة بين قوى المقاومة السودانية من جهة وقوى وساسة الخرطوم من جهة أخرى. تأطير النشاط والعمل والذوق العام وضع معايير خرطومية محلية على إعتبار أنها أطر عامة لكل ما يتعلق بالشأن العام من قبل قوى الخرطوم قد يعتبر عقبة رئيسية تعيق التواصل الفعال بين القوى المختلفة في السودان. فمثلا، أن القوى السياسية حددت معايير للفعل السياسي، بحيث يجب أن يستند الفعل السياسي أو يصدر من بعض الشخوص أو المؤسسات التي تعتبر مؤسسات معترف بها من قبل نادي الخرطوم السياسي أو على أقل تقدير أن يكون مصدر الفعل السياسي مجموعات تضم قوى أو شخوص خرطومية حتى يتم الإعتراف به - بغض النظر عن دعمه أو معارضته - وما دون ذلك فهو صادر عن قوى متمردة مارقة ملآى بالحقد والكراهية وبالتالي يشكل تهديدا لوحدة السودان، أو أن معيار السياسي أو القائد العسكري الموقر يجب أن يكون ضمن قوى نادي الخريجين أو منسوبي الكلية الحربية السودانية (الأكاديمية العسكرية التي هي المدرسة الحربية الإستعمارية) المحتكرة بواسطة مجموعات قبلية جهوية وأسرية كما أسلفنا (5– 10) وما غير ذلك فهو مجرد سياسي عنصري قبلي جهوي أوعسكرية غير معتمدة وغير مؤسسة أو أنها عسكرية "غابية" أو "خلوية" كما يظهر في وصف قائد مليشيا الجنجويد حميدتي على أنه "فريق خلا" وكذلك قوى المساومة "الجبهة الثورية السودانية وسابقاتها" بالرغم من أن السلطة وجيشها ظلت تعتمد بصورة أساسية في حربها ضد المجتمعات السودانية طوال تاريخها على المليشيات بدءا من تسليح المراحيل و إنتهاء بقوات جيش الرب اليوغندي "المعروف لدى مؤسسة الجيش السوداني ومنسوبيه بالقوات الصديقة حينها" حيث ظلت السلطات السودانية تستخدم مليشيا جيش الرب المتخصص في إختطاف الأطفال وتلاميذ المدارس والتعدي على البلدات والقرى الآمنة بإسناد الجيش السوداني لدعم حربها في جنوب السودان طوال تسعينات القرن الماضي. أيضا من الأساليب المتبعة من قبل قوى الخرطوم لاختزال وابتذال عمل قوى المقاومة هو وصفه بأنه عمل مجتمعي معاد لها ولحاضنتها المجتمعية وتستخدم في ذلك أسلحة آيديولوجية معروفة مثل الدمغ بالعنصرية، والعمالة، والكفر والإلحاد، والزندقة، والإرتزاق، وقطع الطرق والخروج على القانون ..الخ من أساليب التخوين والقصر. وينسحب ذلك على المجالات الأخرى كما يحدث في وصف جميع الأعمال الفنية التي لم تقيّد وفق الأطر النظامية المعروفة على أنها أعمال فنية هابطة وغيرها، وفي وصف الأديان السودانية بأنها أسحار و وثنية حتى يتم تجريمها قانونا وتحريمها إسلاميا وبالتالي إعاقة ومنع طقوسها ما لم تواءم الأطر الرسمية، علاوة على وصم الممارسات الإسلامية غير الخرطومية بأنها شعبوية. أيضا وصف أو إبتذال كل قوة مؤثرة أو فعل أو نشاط ذو تأثير خارج دائرة السيطرة وتجريمه ومحاصرته بأنه مناف للذوق للعام وخادش للحياء كما في قصة (ود أمونة) - المعاشة في عدد كبير من البيوت السودانية - للروائي السوداني الفذ الأستاذ عبدالعزيز بركة ساكن في رائعته "الجنقو مسامير الأرض" التي يحاربونها علانية ونهارا ويتأبطونها على أسرتهم سرا وليلا، أو قصة (جومو) للمفكر الدكتور أبكر آدم إسماعيل في إلهاميته "الطريق إلى المدن المستحيلة"، حيث ظل الرقيب الخرطومي حريصا على خلو كل معارض الكتب الخرطومية من هذه الأعمال الأدبية العظيمة. من القومية إلى المحلية مع تطور وسائل وأساليب المقاومة السودانية بدلا من مجرد الرفض والفرار والهرب إلى الأدغال – منذ محاولات إجتياح السودان من قبل الغزو العربي المسلم - إلى المواجهة ضد الغزو طوال القرون الماضية وخوض العديد من المعارك المصيرية لوقف المستعمر منها على سبيل المثال معركة أربجي الشهيرة ١٦١٢م، ومع إعتراف المستعمر بجريمته المتكاملة الأركان بدءا من الغزو والاحتلال والإستيطان واستعباد وإسترقاق المواطنين السودانيين من أعالي السودان إلى أدناه، حيث حُوّلت أعظم حضارة إنسانية إلى أطلال وتدمير كل ما إرتبط بأصل السودان بما في ذلك أنوف تماثيل السلاطين والأبطال ورموز الحضارة السودانية في السودان الأقصى، إضافة إلى إدراك الغازي أحقية قوى المقاومة السودانية في الدفاع عن نفسها وشعبها وإرثها بجانب التيقن بإستحالة هزيمة المقاومة التي كانت لا تسعى حينها إلى أكثر من البقاء والعيش الكريم لشعوب السودان، لجأ المستعمر الذي جعل من الخرطوم مركزا له، لجأ هو الآخر إلى إبتداع وإتباع أساليب بقائية للحفاظ على ما حققه من واقع مجتمعي وخارطة ديمغرافية وسلطة شمولية مركزية قابضة وخطوط دفاع بشرية متقدمة لحماية هذا الأمر الواقع. ومن أبرز هذه الأساليب هو محاولة نسخ السلوك المحلي لقوى الخرطوم على قوى المقاومة، فمثلا، تدرك قوى الخرطوم أن قوى المقاومة تتبنى أطروحات قومية لأجل بناء دولة مستقرة في السودان، لذا سرعان ما تقوم الخرطرم بإصباغ المقاومة المعنية بالمحلية حسب المكون أو الحاضنة المجتمعية أو المنطقة الجغرافية التي ينطلق منها جسم المقاومة المعني، كأن تضغط الخرطوم بأن تتحدث الحركة الشعبية لتحرير السودان عن جنوب السودان وليس كل السودان، وحركة تحرير السودان وكذلك العدل والمساواة عن دارفور فقط، والحركة الشعبية-شمال عن المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق)، والحزب القومي بقيادة الأب فيليب غبوش عن النوبة، والحزب الفيدرالي بقيادة أحمد إبراهيم دريج عن دارفور، ومؤتمر البجا عن شرق السودان وحسب، فيما لا تتوارى قوى الخرطوم التي تتبنى شعارات عنصرية محضة - كما أوردنا في المقال السابق (8 – 10) - أن تتحدث عن سودان يجب أن يصاغ مواطنوه ضمن إطار ثقافي وايديولوجي إستعرابي تعجز هي أن تطبقه في نفسها وحواضنها المجتمعية وهي بالطبع أطروحات عفى عليها الزمن ولم تعد ذو أهمية في منشأها أو البلدان المصدرة لها. فمثلا ظلت حركات أنيانيا (1، 2) ترفض ما عرفت بالسودنة التي هي الأساس عملية إستبدال إستعماري كما ظهر في الإستيعاب الوظيفي وإحتكاره من قبل قوى الخرطوم ولكن تم إجبارها وحصرها للحديث عن جنوب السودان وهو ما لخصته إتفاقية أديس أبابا ١٩٧٢م التي تعتبر أكثر الإتفاقيات تناولا لجوهر الأزمة السودانية خصوصا مسألة الهوية واللغة والتعليم والثقافة، وكذلك إتفاقية نيفاشا ٢٠٠٥م التي هي الأخرى كان يمكن أن تشكل فرصة لإحداث إنتقال حقيقي يفضي إلى وحدة وطنية حقيقية في حال تم شمول القضية القومية وضم قوى المقاومة الأخرى التي كانت تتصدى لمخططات السلطة الإستعمارية في دارفور وشرق السودان، إلا أن خطة الخرطوم في عزل جنوب السودان ودفعه إلى الإستقلال كانت سباقة، سعيا منها في تقليل الوجود الإفريقي في السودان وهو ما تترجمه السياسات الخاصة بنزع الجنسية السودانية من المواطنين السودانيين الذين تربطهم صلات دم أسرية يفترض أنها من جنوب السودان ودونكم قضية السيد برعي "حفيد علي عبداللطيف ومن أم تنتمي لقبيلة الشكرية بالبطانة " الذي نزعت سلطات الخرطوم جنسيته بحجة أنه دينكاوي وكذلك قصة المناضل إبراهيم الماظ المعروفة، وهذه أعلى درجات الظلم الهيكلي التي ظلت تمارسه الدولة ضد أحفاد قادة المقاومة السودانية. أيضا مسألة حصر فصائل تحرير السودان ودفعها للتوقيع على إتفاقيات محلية مثل تلك التي عرفت بإتفاقيات سلام دارفور في كل من أبوجا والدوحة على التوالي، إلى أن جاءت الطامة الكبرى التي وقّعت من خلالها قوى المساومة تحت مسمى بالجبهة الثورية السودانية على إتفاق جوبا في أكتوبر ٢٠٢٠م والذي جاء متطابقا تماما مع خارطة طريق المؤتمر الوطني التي خطها في مارس ٢٠١٦م، وهي (اتفاقية جوبا) ركزت في الأساس على مسائل محلية مع أن الأصل في المشكلة السودانية هي مسألة مركزية تتجلى في غياب دولة حقيقية وسيطرت سلطة إستعمارية تعمل على قتل الناس منذ حوالي ٢٠٤ سنة بالتمام والكمال. إبتزاز المقاومة ومحاولات تقزيم أهدافها بإستخدام جهاز الدولة الإعلامي والأسلحة الآيديولويجة المشار إليها أعلاه، دفع بعض المنتسبين لقوى المقاومة وخصوصا المسلمين منهم، إلى الإستجابة مؤقتا لدعاوي العروبيين وهو ما كان ظاهرا في موقف السيد أحمد إبراهيم دريج رئيس الحزب الفيدرالي الرافض للإنخراط في بناء تحالف مبكر مع المقاوم الدكتور جون قرنق قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان "بحجة أنه مسلم ولن يرفع السلاح في وجه مسلم آخر" قبل أن يعود دريج نفسه لاحقا وينضم إلى تيار المقاومة السودانية في الميدان الشرقي ضمن أكبر تحالف عسكري تحت مسمى جبهة الخلاص الوطني ٢٠٠٦م التي لعبت دور رئيسي في إلغاء إتفاقية أبوجا ميدانيا وقال عنها المبعوث الأممي للسودان إيان برونك آنذاك "أن الجيش السوداني لم يعد يستطيع الصمود أمام جبهة الخلاص الوطني" ما اضطر نظام البشير إلى طرده بسبب تلك التصريحات بعد معركتي (أم سدر) و (كاري أري) في دارفور أكتوبر ٢٠٠٦م، حيث قال قائد الجيش السوداني حينها العميد عبدالرحمن محمد عبدالرحمن الذي تم أسره في (كاري أري) بعد تدمير قوته، قال مخاطبا قيادة جبهة الخلاص الوطني "أنا بحارب في الجنوب ١٤ سنة ما حصل لي كدة، ولو أصلا عندكم قوة بتهزم قوتي دي كان أخير ليكم تمشو الخرطوم، ماف قوة أكبر من قوتي دي في السودان كله". والعميد عبدالرحمن كان يقود محور واحد من حملة عسكرية كبيرة شنتها الحكومة السودانية تحت قيادة مركزية على رأسها الفريق محمد أحمد الدابي لفرض إتفاق سلام دارفور "إتفاقية أبوجا ٢٠٠٦م" بالقوة بعد التوقيع عليها في التاسع من مايو من نفس العام. فريخ الحركة الإسلامية قد تظهر التعقيدات المجتمعية التي أشرنا إليها في المقال السابق على أنها مجرد مسألة مجتمعية تجذرت أو تعلقت بحقبة المستعمر وأن ما تلاها من ممارسة سياسية قد عضدت من يقين العامة ببعض جوانبها، كأن يعتقد البعض أن الرق قد مورس فقط في مناطق جنوب وغرب السودان، ولكن الحقيقة أن الرق تم بصورة أساسية في كل مناطق السودان وخصوصا في مناطق شمال السودان حيث تركز الإستعمار التركي في مراحله الأولى (في الفترة ما بين ١٨١٨م – ١٨٢١م)، قبل تمدده إلى بقية أنحاء السودان الذي ظل يقاوم بإستمرار لحين طرد المستعمر التركي والإنجليز في ١٨٨٥م. وفيما تبدو عبارات التحقير والتقليل من شأن الآخر – الشائعة - مقابل التعالي مثل (عبيد) و (أحرار)، (زرقة) و (عرب)، (دندارة) و (غرابة)، (أولا بلد) أو (أولاد بحر)، (أولاد الغرب)، (عرب ظوط)، (أهل العوط)، (أرم يرك بتك تنرك)، (أبوك كان كلب أبوك وكان عربي كلو أبوك)، أحفاد تجار الرقيق ..الخ من العبارات التي تظهر وكأنها قمة جبل جليد التنافر المجتمعي بين مكونات السودان التي ظلت متباعدة ومتنافرة بسبب مواقف ودور قيادات مجتمعية وسياسية منذ عهد الثورة السودانية (التي سميت بالمهدية) وكذلك ثورة اللواء الأبيض، إلا أن ما صرح به زعيم الحركة الإسلامية في السودان دكتور حسن عبدالله الترابي نقلا عن رأس النظام الأسبق الجنرال حرب عمر البشير بأنه كان ينادي القيادي الإسلامي الآخر الدكتور علي الحاج وزميله في التنظيم بـ "الفريخ" وكذلك حديث الرئيس عن جرائم إغتصابات الجيش السوداني في دارفور بأنه أمر يجب أن يشرف الغرابة بالقول "الغرابية لو ركبها جعلي شرف ليها"، فهذه الأقوال توضح كيف أن التعقيدات المجتمعية لا تلعب مجرد دور رئيسي في صناعة وصياغة الفعل السياسي وحسب، وإنما تبين أن الصراع السياسي في السودان ما هو إلا إنعكاس للتعقيدات والأمراض المجتمعية، لا غير. لأنه إذا كان رئيس الحركة والحكومة الإسلامية معا – وحزب المؤتمر الوطني الإسلامي الحاكم في نفس الوقت - لا يرى في مواطني بلاد يحكمها بأنهم بشر أسوياء وإنما مجرد أشياء أو حثالات "فروخ"، فمن الطبيعي أن يكون كل ممن حوله على نفس النسق بكل تأكيد، على أن يكونوا أكثر وقاحة وجلافة وعنصرية، والمرء بخليله يعرف. أيضا هذه المسألة تستدعي ضرورة إعادة النظر في أصل وطبيعة الخلاف بين منسوبي الحركة الإسلامية وإنشقاقها نهاية تسعينات القرن الماضي – رغم أنهم يتفقون جميعا في أسلمة وتعريب الناس أو قتلهم تحت شعار الإسلام والجهاد - حيث الرائج في أصل المسألة ما تداوله الإعلام في خطاب البشير وقتها والذي جاء مضمونه "بأن المركب ما بقودوها راسين أو راسين بيغرقو المركب" وكأن البشير أراد أن يقول أن سبب التنازع بين المجموعتين هو ان الترابي (الأمين العام للحركة الإسلامية) ظل يتدخل في شؤون حكومته التنفيذية، ولكن بمراجعة الحيثيات حول الحادثة بما في ذلك طريقة قتل الشاب شمس الدين (في بحري المزاد) وآخرين وما آلت إليه الأمور لاحقا يتضح أن الحقيقة بريئة كل البراءة من كل أكاذيب الإسلاميين، وخصوصا مع الإنقسام المجتمعي الظاهر داخل الحركة الإسلامية حيث أجبر مجموع المكون الإفريقي غير العروبي من أبناء الحركة الإسلامية - عزلا وقهرا – على تأبط تيار الترابي (الغرابي) الذي كشف إبنه عصام الترابي في العام الماضي (٢٠٢١م) إبان زيارته لتشاد لتقديم واجب العزاء في وفاة الرئيس التشادي أدريس ديبي بأن والده ظل يتعرض لعزل مجتمعي ما اضطره للبحث عن أهله في غرب السودان، مقابل مجموع مكون الإسلاميين الآخر المؤسس لمذكرة العشرة الشهيرة (١٩٩٨م) للإنفراد بالسلطة والتنكيل بأصحابهم السابقين. عجز طرح الحركة الإسلامية – طرح الدولة الإسلامية - من توحيد "الإخوان المسلمين نفسهم" أو بالأحرى عجز الإسلام عن توحيد أبناء الحركة الإسلامية يبرهن بوضوح عجز ذات الطرح من بناء وحدة راسخة بين مكونات السودان وبالتالي عدم صلاحه لبناء دولة مختلفة ومتبيانة المكونات. لقد أكد الإنقسام العنصري للحركة الإسلامية على نبوءة وموقف القائد داؤود يحيى بولاد الذي قال "الدم أقوى كثافة من الماء" عندما سئل عن تغيير توجهاته الفكرية ليقرر بموجب ذلك الإنضمام لتيار المقاومة العلماني بقيادة الدكتور جون قرنق. رمتني بداءها وانسلت عادة ما يتردد أن تُتّهم المقاومة السودانية على أنها مهدد لوحدة السودان تارة بسبب صمودها وعدم إنكسارها، وتارة أخرى بسبب طرحها الصريح وتناول القضية السودانية بطريقة مغايرة لحالة النفاق السياسي العام الذي هو أصل ممارسة العمل السياسي السوداني، ورميها بالحقد والكراهية والعنصرية لمجرد الحديث عن المظالم الهيكلية التاريخية ضد الشعوب السودانية وأصل المشكل السوداني وطرق حلها التي تتطلب إعادة النظر في مجمل الأوضاع بدءا من تثبيت أركان الدولة وفق مبادئ راسخة مثل "المبادئ فوق الدستورية المعلنة من قبل الحركة الشعبية - قيادة الحلو"، وذلك لأن القوى السياسية في الخرطوم لا تقبل مجرد التفكير في تغيير الحكي عن سودان مغاير لما ظلت تحكي عنه وتعمل لأجله طوال العقود الماضية، وكأنها تدافع عن نفسها وتداري سوءاتها وممارساتها التي قضت وآذت الملايين بسبب السياسات العنصرية. مثلا، مسألة تسمية غزوات المسلمين الأولى أو الغزو التركي المسلم ضد السودان بأنه "فتح وليس غزو وإستعمار مجرم" وحده كفيل بأن يضع السودانيين في طرفي نقيض، لأنه في الوقت الذي يسعى البعض إلى بناء أمة سودانية موحدة بوجدان مشترك، أرّخ البعض عن أسوأ جريمة بشرية حدثت ضد السودانيين بأنها عملية فتح تنويرية إسلامية مع أنها كانت البداية للرِّق في السودان، والأسوأ من ذلك أن المؤرّخ قصد بأن يقول "أن الرق في السودان شمل مجتمعات بعينها دون الأخرى وهو غير صحيح، لأن الرق عمل في المناطق التي تم إستعمارها في المراحل الأولية للغزو في شمال السودان، إلا أن القائمين على أمر كتابة التاريخ الرسمي كأنما أرادوا القول بأننا مثلكم سودانيون ولكن لم نسترق كما أنتم الذين نحاربكم، ومن خطوا في كتاب التاريخ المدرسي كانوا أكثر وقاحة في ذلك حين وضعوا "إن فتح محمد علي باشا للسودان جاء بغرض البحث عن الذهب والرجال في مناطق بني شنغول"، مع أن مسألة إخفاء الجدات والجدود داخل الغرف أثناء المناسبات وسط المجتمعات الأخرى – غير بني شنغول – حتى لا يكتشف أصلهم/ن، لم تكن ببعيدة ولم تتجاوز الخرطوم جنوبا في أغلب حالاتها. الإستعمار التركي الذي أسس معسكرات الرق في كل أنحاء السودان منها ديوم بحري، بري، الخرطوم، ديم زبير في بحرالغزال، ديم منصور في النيل الأزرق، ديم بكر في القضارف، ديم عرب وديم سواكن في البحر الأحمر ..الخ من مراكز التجارة بالمواطنين السودانيين الذين يتم إختطافهم من مناطقهم الأصلية وهم في الأغلب مجرد أطفال ونساء بعد مداهمات القرى في الأوقات التي يذهب رجالها إلى الصيد في الأماكن البعيدة وقتل الموجودين منهم، ومن أشهر قصص الرق هي قصة الطفلة التي أصبحت القديسة بخيتة المعرفة بـ "الأم بخيتة التي أختطفت من منطقة أم كردوس بجنوب دارفور"، وبالطبع فإن (بخيتة) إسم أطلقه عليها تجار الرق وليس إسمها الحقيقي. هذا النوع من الإستعمار والإسترقاق لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسمى "فتح". وما ظل أقبح في هذا الجانب هو أن التصورات والثقافة العامة التي تشكلت في فترات ما بعد الإستعمار التركي حاولت بكل السبل تجريم الضحية والتقليل من شأنه وإظهار بعض الشعوب السودانية وكأنها آثرت العبودية على الحرية وهو ما تكذبه قصة الأم الحرة بخيتة التي يستفيد من إرثها كل العالم عدا السودانيين. فعادة ما يحاول البعض وسم البعض بالعبودية بالقول يا "عب" لأنه سوداني (أسود) وكأنما البادئ يريد أن ينآى بنفسه عن جده أو جدته التي يخفيها أيام الأعياد والمناسبات تفاديا لجرح عروبته الغبراء، وهنا أذكر قصة جاري – بن قيادي إسلامي معروف - الذي كان يسخط من أمه التي تطلب منه الخروج من المنزل والجلوس إلى أقرانه (نحن) حتى جاء رده ذات مرة "إنتي والدانا سود كده نحن كلاب ياخ، ومكرهانا اطلعوا بره اطلعوا بره"، مع أنه كان الطبيعي، فيما يتعلق بأمر الرق طبعا، أن تتم مواجهة المجرمين الذين كانوا يخطفون الأطفال والنساء واؤلئك المتباهين بهذه الأفعال الإجرامية وتجريمهم ومحاسبتهم ومصادرة كل ما يعود إليهم من قصور وغيرها لقاء هذه الجريمة كما في قصر الزبير باشا بمنطقة الجيلي شمال الخرطوم. أيضا يلاحظ في مسألة تجريم الضحية في قضايا أخرى مثل وحدة أو تقسيم السودان، حيث أن السياسي السوداني الخرطومي الذي ظل يقطع الطريق أمام أي فرصة توافقية بإعتباره قد حدد ملامح دولته الإفتراضية ويعتقد أنه يمكنه تثبيت أركانها "ثوابت الأمة" بواسطة العنف، فعادة ما يقوم ذات السياسي بتوزيع صكوك الوطنية وكأنما حصل على ملكية السودان عبر لعبة "اليانصيب". فمثلا كل القوى السياسية في الخرطوم ترى أن الأزمة السودانية تكمن في نظام البشير ١٩٨٩م فقط، بدلا من أن يكون نظام البشير أعظم تجلياتها، بينما جميعها -قوى الخرطوم - تصف قوى المقاومة السودانية التي تتحدث عن حقيقة وطبيعة الأزمة السودانية بـ "التمرد"، مع الإصرار على عدم قبول فكرة أن المشكلة السودانية مشكلة كلية تتطلب إستيعاب أو على الأقل السماع لأطروحات ورأي الآخرين خارج مدارس الخرطوم العنصرية ومشاركة كل سوداني يسعى إلى بناء دولة مستقرة في السودان. وعندما تعلق الأمر بقوى الجبهة الوطنية العريضة أواسط سبعينات القرن الماضي والتي يقودها سياسيو الخرطوم، سرعان ما هرول الجميع إلى نعي الجنود الثوار حينها بالمرتزقة دون قيادات الجبهة التي هي الأخرى عجزت حتى عن الدفاع عن جنودها، وذات الموقف تكرر من قبل رئيس حزب الأمة الصادق المهدي إبان دخول قوات حركة العدل والمساواة السودانية إلى الخرطوم في مايو ٢٠٠٨م، حيث وصف الصادق قوات المقاومة حينها بأنهم غير سودانيون، لأنه يعتقد أن المعارك العسكرية يجب أن تدور بعيدا عن الخرطوم وليس حيث يسكن هو وأمثاله ممن أبطتهم خدمات المستعمر مواقع قيادة العمل السياسي. جميع القوى السياسية تؤمن بأن هناك مؤامرة قائمة تحاك ضدها وضد وحدة السودان، إلا أنها لا ترى في إستخدام جهاز الدولة لقتل ملايين المواطنين السودانيين العزل تهديدا أبدا، كما أنها لا ترى أن إصرارها على قيام دولة عربية هو المهدد الرئيس لوحدة السودان وأن تقسيم السودان في ٢٠١١م ما هو إلا إنعكاس لسياسات الخرطوم التعريبية التأسلمية القسرية. حديث القيادي الإسلامي البارز الدكتور غازي صلاح الدين - أحد الموقعين على مذكرة العشرة التي قسمت الحركة الإسلامية إلى غرابة وشماليين - وفق تسريبات ويكليكس عام ٢٠١٤م حيث نقل الموقع عن غازي العتباني ذكره لبعض المسؤلين الأمريكان أن "مسيحيي إثيوبيا وإريتريا أقرب إلينا من مسلمي جنوب لسودان"، فمثل هذا القول الذي لا يمثل إلا غازي نفسه وأمثاله، يعتبر أساس الدافع العنصري في تقسيم السودان، إلا أن الملاحظ في كل الأحوال يشار إلى الجنوبيين وكأنهم كارهون لمواطني السودان في الشمال، وهذه مغالطة وإزدواج متعمد لغرض إخفاء حقيقة ما يحدث من عنصرية إسلامية ومحاولة لإسكات الضحية وتحميله مسئولية جرائم الغازي. وحدة الشعارات وتباين الرؤى الشعارات التي تصدرت حراك ديسمبر (المستمر) بدءا من شعار "حرية، سلام وعدالة"، "يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور"، "من كاودا لـ أم درمان كل البلد سوداني" إضافة إلى شعار حزب المؤتمر السوداني "معا من أجل سودان / وطن يسع الجميع" وغيرها من الشعارات التي تصدرت المشهد، قد تتطابق جملة وتفصيلا مع شعارات قوى المقاومة التي ظلت تنادي ببناء دولة حقيقية تستقي فلفستها التأسيسية من الواقع السوداني وعموم القيم الإنسانية كما في شعار الجبهة الشعبية المتحدة المعروف "الحرية + العدل + الديمقراطية = السلام" والذي أصبح الشعار الرسمي لحركة تحرير السودان. ولكن عادة ما تظهر الحقيقة في أي لحظة أو فرصة تتاح لقوى السودان المختلفة الجلوس إلى بعضها بغرض التباحث حول المصير الواحد أو المشترك بين هذه القوى حيث تصطدم هذه الشعارات بالمواقف الظاهرية عند تمترس بعض المجموعات حول جوهر توجهاتها (غير المعلنة) والمعبر عنها بشعارات مقدسة وافدة وتكتيكات معروفة مثل "ضرورة فرز القضايا القومية المصيرية ؛الإستراتيجية؛ التي هي (قضايا الحرب والسلام بالضرورة) عن القضايا المحلية الأخرى، وهو ذات سيناريو نظام البشير والحكومات السابقة له في التعامل مع أطروحات وأجندة المقاومة السودانية. عدم جدية القيادة السابقة لقوى حراك ديسمبر ممثلة في تحالف الحرية والتغيير ورئيس وزراء حكومتها الإنتقالية دكتور عبدالله حمدوك (في الفترة ما بين سبتمبر ٢٠١٩م – ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م) تجلت في ترتيب سلم أولوياتها الذي لم تظهر عليه قضايا الحرب والسلام - عدا توقيع إعلان مبادئ حمدوك-الحلو في أديس أبابا في سبتمبر ٢٠٢٠م الذي عجز حمدوك عن الدفاع عنه -، وأكثر من ذلك عهدت هذه القوى وحكومتها الإنتقالية بـ قضية الحرب والسلام في السودان – أنظر (إعادة هيكلة الجيش أم الدولة؟ 10 – 10) - إلى المكون العسكري للحكومة الإنتقالية، الذي هو الآخر كان يسعى إلى كسب حلفاء جدد وهو ما حققه (عبر إتفاق جوبا أكتوبر 2020م) لدعم مخططه الإنقلابي الذي قام بتنفيذه في أكتوبر ٢٠٢١م، والأمر برمته عبارة عن إعادة لمشهد مطلع سبعينات القرن الماضي عندما وقع العقيد جعفر نميري إتفاق أديس أبابا ١٩٧٢م مقابل سحق الأحزاب السياسية المعارضة له وقتها وتكوين ما يعرف بالإتحاد الإشتراكي والذي يضارع ما يروج له زعيمي الجنجويد – البرهان وحميدتي تحت مسمى "التوافق الوطني" اليوم. لذا فإنه يلزم لجان المقاومة وقوى حراك ديسمبر مجتمعة التواصل مع كل قوى المقاومة السودانية التي ظلت تقاوم نظام الخرطوم لقرون من الزمان تأكيدا لعدم تكرار التجارب السابقة وضمانا لبناء عقد إجتماعي موسع يضم كل السودانيين بمكوناتهم المختلفة ويؤسس لبناء دولة حقيقية قوامها القيم الإنسانية النبيلة، دولة يكون الولاء لها والكرامة لشعبها. يتواصل ..
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 03/03/2022
عناوين المواضيع المنبر العام بسودانيزاونلاين SudaneseOnline اليوم الموافق 03/03/2022
عناوين المقالات بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 03/03/2022
|
|