يعرف بيير تيب Pierre Tape الهوية الشخصية بأنها المسافة التي يقطعها الفرد بين محاولة التميز عن الآخرين واضطراره للتطابق معهم. فالفرد يبذل طاقة قصوى للموازنه بين تركيبته المعرفية والنفسية (هويته الشخصية) وحضوره داخل الجماعة. في المجتمعات المتخلفة، تكون الجماعة غالبة وقاهرة للهوية الشخصية، بحيث كلما دمج المرء فيها ذاته فانحلت فيها بدون محاولة للتميز يكون معترفاً به وإلا ظل منبوذاً. وهذه من سمات عمل القطيع الحيواني. لقد بذل أجدادنا الحلب -ولا زالوا للأسف يبذلون- مجهوداً كبيراً ليُعترف بهم داخل المركب الإثني الشمالي، فهم يرتدون الجلابيب والعمائم التي لا تشبههم، ويمارسون ذات طقوس الشماليين، وذات حركاتهم، ويستمعون لذات أغانيهم، رغم الشقة المعرفية بين الثقافتين. سنشاهد مثلاً الكابلي وقد أضاع عمره في تعلم المصطلحات الفلاحيين الشماليين دون جدوى مثل الفانوس والسيف البسل الروس.. في محاولة منه للركوب مع الجماعة الشمالية. التي تجعل من نفسها معياراً للسودانوية. ولذلك شاعت رسائل عبر الوسائط الرقمية بأنك لست سوداني إذا لم تعرف: (الداقوس، والغاموس والجعموس..الخ ) ومفردات الفلاحين الشماليين التي لا يمكن بأي حال ان تكون رقماً وطنياً لا لنا نحن الحلب غير الفلاحين ولا لهدندوي من الشرق ولا لفوراي من الغرب أو دينكاوي من الجنوب. لكنها فرضت علينا فرضاً. بعض الجنوبيين أيضاً أضاعوا زمنهم في ردم المسافة بين هويتهم الشخصية والهوية الشمالية، فغنوا بأغاني الشمال، فنالوا حينها القليل من الاعتراف. وهذا سخف وإهدار لطاقة الإبداع. تؤدي المجتمعات المتخلفة إلى محو الهوية الشخصية تماماً وتحجيمها وتمنعها من التفكير خارج عقل القطيع. حتى بالنسبة لأفرادها ناهيك عن الأجانب عنها، لذلك سنلاحظ أن عقل الشماليين ظل كما هو، منذ الاستقلال وحتى اليوم، ونفس تصرفاتهم تتكرر على مستوى السياسة وحتى مستويات الفساد. الشيوعي عام ١٩٥٦ هو نفسه الشيوعي عام ٢٠٢٢، والكوز ايضاً، والأنصاري، وهلم جرا.. لأن هذه الثقافة المتخلفة تفرض عليهم التفكير بنفس الطريقة، وإلا تم نبذهم. ويفضل الكثيرون -كما فضل أجدادنا- توفير فائض الطاقة في الإندماج في المجتمعات الشمالية، وحفظ معنى الفافنوس والقندوس وغير ذلك من سخافات. هذه المجتمعات -كما أسلفت- تهدر طاقة المبدعين، لذلك فأغلب من حصلوا على التميز فضلوا الهروب إلى الشمال، إلى مصر في مراحلهم الأولى، ثم إلى أوروبا في مراحلهم اللاحقة. سنلاحظ أن أغلب المبدعين لم ينالوا حظهم من الاعتبار إلا خارج القطيع. وخاصة في الأدب. لأنهم تمكنوا من استغلال فائض الطاقة الذي كانوا يبذلونه للإندماج المجتمعي في التفكير خارج نطاق القطيع. يعتبر الشماليون أنفسهم معيار كل شيء، ويجب على كل شيء أن تتوفر فيه معاييرهم لكي ينال الحق في الوجود. وهذا ليس خطأً منهم، فنحن سنجد اننا كلما توغلنا في المجتمعات البدائية كلما اتسمت بذلك الفهم الإحتكاري، وكلما صعدنا إلى المجتمعات المتمدينة، كان الفرد متمتعاً بهويته الشخصية إلى درجة كبيرة. ولذلك فإن المُدن تستطيع جمع كل الهويات والثقافات. في حين تنشب الحروب الأهلية في المناطق غير المتمدينة. كانت الخرطوم في عهد الاستعمار البريطاني مدينة، صغيرة نعم، ولكنها مدينة حقيقية، فيها الشماليون والجنوبيون والآرمن واليهود والمسيحيون والإنجليز وقلة من الفرنسيين..الخ، لكن بمجرد خروج الاستعمار اتسعت، وعادت لتكون قرية من جديد بعد أن سيطرت الإثنيات الشمالية على كل أركان الدولة، من وزارات وبنوك وجيش وشرطة وأمن وإعلام وجامعات..الخ، لذلك عادت ثقافة الفلاحين البدائيين إليها. أي النموذج المعياري الشمالي، الذي فرض على الآخرين أن يحاكوه ويقلدوه بمستوياته المختلفة. وظلت هذه المعايير غالبة إلى أن بدأ دخول غير الشماليين إليها مؤخراً، مما اثار حفيظة القطيع الغالب، وهنا حدثت الثورة لطردهم والإبقاء على الهوية الشمالية للخرطوم. ولتعزيز ذلك دفع البرهان ببعض المدنيين ليقوموا بإنشاء كيانات ذات طابع شمالي غير عسكري كممثلين للخرطوم، مما يشير إلى صراع قادم في المستقبل حول طبيعة الخرطوم. هل هي عاصمة مدنية جامعة حقاً أم هي محتكرة لثقافة الفلاحين البدائية؟ [يتبع]
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق December, 05 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة