لي أسماء عديدة. فقد أرادت والدتي تسميتي "نور الدائم". ودونته في شهادة الميلاد. ولم يقبل والدي بذلك لأنه كان تواثق مع نفسه أن يسميني "عبد الله". فقد طلب الجَنى من الشيخ عبد الله ود العجوز حين عمل بمحطات جبل موية وجبل دود وجبل بيوت في الثلاثينات. وما دخلت المدرسة بأبي حمد حتى أخذني للمحكمة الشرعية وبدَّل اسمي أمام قاضيها الذي أظنه كان مولانا عبد الله الترابي والد الزعيم المعروف. وضاع كل ذلك أدراج الريح. فقد اضاعت جامعة الخرطوم شهادة ميلادي . . . هكذا. وأصبح استدراكها ببدل فاقد مستحيلاًً.
وكنت ضحية أسمائي هذه قبل أعوام. احتجت لتصحيح تاريخ ميلادي الذي كتبه ناس الجوازات على كيفهم والإسم سالم. وصَوّع ذلك بي في ردهات الدولة يرفعني آل ويخفضني آل كما قال العباسي. لأنتهي عند مكتب الإحصاء لآتى بما يثبت ميلادي وتاريخه، أو بشهادة فقدان لاتمم إحراءت تغير تاريخ الميلاد. وذهبت موقناً أنني سأعود بشهادة الفقدان لامحالة: فمن أين للدولة السنية أن تحتفظ بهذا الميلاد البعيد في قرية بعمودية جلاس مركز مروي لا هنا لا هناك. فلو لم يمت اسمي في سجل المواليد بتقادم الزمن مات بسيل مروي في ١٩٨٨ الذي هدم صوامع للحكومة وبيع
ويا للمفاجأة. وجدت عند مكتب الإحصاء تسجيل ميلادي موثقاً باسم نور الدائم في أضابير الدولة كالكادوك. دي مصيبة شنو دي؟ هذا هو الشقي نفسه الذي يلقى في الفشة عظماً. فصرت بعدها كيوم ولدتني أمي: نور الدائم وعبد الله معاً. وهذه شبكة لم تحلني منها ألا المحكمة الشرعية بمدينة بحري. وهكذا دولتنا: تهمل ولا تمهل حين تريدها أن تهمل.
ثم تسميت ب "بدوي" حين طلبوا منا أن نختار أسماء "تنظيمية" في فرع طلاب الشيوعيين بمدرسة عطبرة الثانوية في 1960. وتجد هذا الاسم الغامض في ذيل كتاباتي بمجلة "الشيوعي" النظرية التي يصدرها الحزب الشيوعي. و هي أقدم المجلات صدوراً بعد السودان في رسائل ومدونات. وتنوعت أسمائي في البيوت التي تفضل عليَّ أهلها بالاندساس بينهم خلال فترة اختبائي من عين أمن نميري في السبعينات. فأنا "سالم" مرة و"عم حسن" تارة. وقد نَعيتُ قبل سنوات إمرأة ظلت تناديني "عمي حسن" حتى بعد أن خرجت للعلن بقولي بأنها "آخر الناطقين بلغة عم حسن". رحمها الله.
كان اسم "بدوي" أول ما خطر لي لأول اجتماع ل"لقشيرية". وهو اسم مدرس اللعة العربية: الأستاذ بدوي مكي من أبناء أم درمان. وكنت قد نلت منه تقريعاً قبل حادثة التسمية. فقد أرسلني إليه أستاذ آخر اسمه سيد احمد الجاك لاستدعيه له. ونقول بيننا الطلاب لسيد أحمد تخفيفاً "ود الجاك". ونطلق عليه أيضاً "قلم التروبن" لأنه مال إلى القصر والوسامة شاكاً بدلة سوداء دائماً. ولما وصلت مكتب بدوي قلت له بغير احتراز: "ود الجاك قال ليك تعال". واستنكر بدوي مني هذا التطفيف لاسم الأستاذ وذنبني ووبخنيً شديداً. ولما سألني الشيوعيون كمنكر ونكير في باكورة اجتماعي بهم: "ما اسمك؟" قلت: "بدوي" والكلب يريد خانقو.
عادني كل ذلك بعد قراءتي لمخطوط عن ذكريات الأستاذ موسى إبراهيم محمد إدريس الوكيل السابق لوزارة المالية. ولا أعرف عملاً شدني إليه من الغلاف إلى الغلاف مثله. وسأفرد له حديثاً قادماًً. وقد قرأ موسى الذي يصغرني العربية على يد بدوي أيضاًً. وروى عنه موقفاً شجاعاً نادراً. فقد جاءهم لحصة العربي في صباح يوم انقلاب 17 نوفمبر 1958. فقال موسى عنه:"ظل طوال الوقت يذرع الفصل جيئة وذهاباً. يتحدث بلا كلل أو ملل ونحن نصغي ونتابع دون أن نستوقفه باستفسار أو سؤال. ابتدر حديثه بقوله إن هذا يوم حزين في تاريخ السودان. بالأمس وقع انقلاب عسكري أطاح بالشرعية في البلاد وأعلن أحكام الطوارئ. وبذلك يؤسس لتعطيل الدستور وذهاب دولة وحكم القانون وبداية ضياع كفاح شعب السودان الذي طال وشاركت فيه الجماهير كلها تحت قيادة مؤتمر الخريجين والطوائف والنقابات حتى تحقق الاستقلال قبل عامين فقط". ووصفه موسى بأنه كان حزيناً بالغ الأسى. تحدث كثيراً وكثيراً. وختم الحصة بأن نتهيأ لعهد من الظلام لا يعرف مداه إلا الله.
بدوي: الوطن قال ليك تعال.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 03/21/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة