في النصف الثاني من الثمانینات، وأنا حدیث التخرج من الجامعة، انضممت إلى صحیفة الریاض السعودیة كمحرر ومصحح لغوي. وفي أول مرة أفكر في التعرف على زملاء من الأقسام الأخرى، أتجھت إلى القسم الثقافي. قلت لنفسي إنھ القسم الذي یھمني في حال أردت التعاون معھم ككاتب. قدمني لھ أحد الإخوة من زملائنا السودانیین )الأخ كمال .. زمیل جدید( . وجدت منھ ترحیبا حاراً . واستغربت سؤالھ لي )من وین في السودان ؟( .. قلت : ھل تعرف مناطق السودان ؟ قال : نعم ، وسبق أن عشت في السودان . قلت : أین ومتى وكیف ؟ وكانت قصة شائقة بدأھا بأن والده أرسلھ لدراسة المرحلة الثانویة في مدینة القضارف. وكان ذلك عن طریق أحد أصدقائھ التجار. وبعد أن مكث فترة في داخلیة الطلاب أصر علیھ التاجر صدیق والده أن ینتقل للسكن معھم في البیت. وبالفعل انتقل إلى منزلھم واستطاع بسھولة وفي زمن وجیز أن یحقق تآلفاً مع أفراد الأسرة الذین لم ینقطع عنھم ولم ینقطعوا عنھ بعد انتقالھ لاحقا إلى الخرطوم ثم إلى السعودیة. قلت لھ : ھل تعرف منطقة اسمھا )شمبات( ؟ ضحك بصوت عا ٍل قائلاً : أعرف شمبات وقد سكنتھا، و كنت أحضر إلى متجر عمنا أحمد في تقاطع كذا . وللمصادفة كان ذلك المتجر جاراً لنا في شمبات، وكان العم أحمد كوالدنا. وإثر ھذا اللقاء وھذه اللحظات الحمیمیة مع الزمیل الیمني محمد عبد الإلھ العصار ، طیب الله ثراه، توطدت علاقة طویلة كان أبوزیاد فیھا بمثابة الأخ الأكبر. وكنا نتبادل القراءات كلما كتب أحدناً أبیاتاً أتى بھا إلى الآخر. وكنت في غمرة السعادة بأن یطلعني محمد العصار على كتاباتھ وأنا وقتھا حدیث عھد بالتعامل مع القصیدة. ولا أنسى أبداً اھتمامھ بالإعلامیین الیمنیین وقتھا حیث قدم لھم الدعوة لزیارة السعودیة وكان ذلك بتنسیق رئیس التحریر الأستاذ تركي السدیري، رحمة الله علیھ، وإشراف محمد العصار. ولا أنسى تلك الزیارة التي كان فیھا العصار مایسترو كل الجولات في الوزارات الحكومیة وخاصة ما یتعلق بالإعلام من إذاعة وصحف وتلفزیون. ً وحتى لا یأخذنا النثر بعیدا عن إبداعات العصار الشعریة فلنفسح المجال لبعض أعمالھ. فھاھو یبدع قصیدة )حضرموت ( التي تعد واحدة من روائع ما كتبھ: صلاتي لھذي البقاع مقدسةٌ وصلاتي قیام وشاھدةٌ عند قب ٍر مضىٌ في الرما ِل صلاتي ُمقدسةٌوقیامينديالھیام صلاتي مقدسة فامنحوني ف ض ا ًء ب لا ل غ ٍة وامنحوني تعاویذكم كلما أخرجتني من الأرض أسرارھا كلما شاخ حزني السعی ْد.. وضرجني بحركم بالغما ْم ھ ك ذ ا ج ئ ُت  مثل َمُ ْن قتلوھم طلیقاً فررت من الأس ِر من جسدي واحتشم ُتالسلامعلىقبر"ھود" إلى أن یقول : حضرموت البعیدة.. تدعو ثیابي تبللھا ,ثم تنشرني وحصاني القدی ْم كان سیفي .. وسیفي حصاني فكیف قفزت إلى البحر , و َم ْن ذا أ ّسمي غیر الیماني یماني یشرب النا ُس ما حاكھُ النا ُس من شجر الأنبیاء القدامى مثل صلاتي على قبر ھو ْد .. وثمود البیاض الجدی ْد ف ل س ی ئ و ن ع ی ٌد , و ك و ن , و ط ل ٌع م ج ی ْد یا أھل سیئون.. یادان روح مبعثرة تحت شم ٍس متوج ِة بأناشید معتل ٍة خبروني .. لأنھ َض كانت وعو ُل الأماني تفاجئني والرجا ُل یخونونني حین أفتح باب السماوات كي یدخلون وأرواحھم تتھجى المطرز بالعطر قبل أجترا ِح التعالیم أسماءكم خبروني .. أنا المتكس ُر جئت على ناقة اللهِ لا تذبحوا صد َر ھذي السماء فقد صعدت من تجاویفكم ومضى ھو ُد یبحث عن قبره في الرما ِل.. إلى آخر القصیدة ویقول في قصیدة )الــجــبــــال( التي كتبھا قبل رحیلھ بسنوات وكأنھ یعیش حیاة الیوم والظروف التي تمر بھا جبال الیمن الیوم *** إذا خیرتني الجبال سأختارھا! الجبال الصدى والقرى والأماني التي قُتلت والأماني التي قاتل ْت الجبا ُل إذا اشتد سیف العناد وزلزلِتالأرُضزلزالھا حین لا تقصف الأرض آمالھا یوم تأتي الفراسةُ.. والخیل تعرف خی َّالھا الجبال صد ًى وھُدى فوق صدر الغیوم وإن لم یكن أحدا مدداً سیدي الجبل ال ُح ّر یا سیدي مددا وإذا ذكر المرء مثوى. سیذكر بھوان... كحلان )2( یذكر بعض صداقاتھ... في الصخور النقوش یذكر... صخراً... ونسراً وكعب ابن عبھل... یذكر تلك الصداقات ولو صدفةً... لا یجود الزمان بأحوال أمثالھا إنھ یتذ ّكر.. لا غّیر ذكرى لھ ..لیس غیر التذكر ذكرى لھ... في الزمان الذي لا یُ َمل.. ولیس لھذا الزمان الأقل.. ویبكي.. ولو كان .. منذ البكاء الأزل.. إذ خیرتني الجبال سأختارھا میمیاء الحروف وحبر الحروب خب ٌر غام ٌض في الأحادیث تنبي ُء أشلاؤھا عن تفاصیل أھوالھا إنما ول ٌد كم تفتت فوق الصخور فؤاداً.. ولھواً وعمرا و ل ٌد ظ َّل ی م ش ي ن د ّي ا ل ھ و ى والطفولات تغمره والظلال وأشتات أخرى وھي ذكرى الذي ھام في كل ذكرى الجبا ُل تھی ُم على وجھھا في فضاء الأبد الجبا ُل ستبكي وتحزن أمطارھا وتسیر على الأرض أحجارھا وتُبل ِّ ُل بالنور أشجارھا تحت خلق السماوات.. عن لا .. أحد.. فھي تلك الجبال السماوات والأرض.. والكون والماء تجریھ ما سار في الأرض سی ِّارھا.. إنھا تلك شمس عطاء الجسد وھي تلك التي علمتك تقل ِّم أظفارھا ھي شمس فنائك.. لیلك أو في نھارك.. ضوء العیون التي أنت والجبل الحر أنت یا میتاً تحتھا .. وظلالك ظ ٌل لھا یُشتفى من مروءتھ إن َّھا علمتك.. فأوفت.. ھي ّمدرسة الأرض یوم لا أحد.. ِكلمت ْك ْ ھي قبر حیاتك.. ِعلم مماتك جامعةٌ تحت سقف الغیوم إلى آخر القصیدة لا شك في أن رحیل الشاعر محمد العصار الذي كان عام 2012 خسارة للأدب والثقافة والإعلام في الیمن نم ھانئا أبا زیاد فقد خاطبت جبال الیمن وأوصیتھا وصیة العارف وكأنك تعرف ما ستؤول إلیھ وما ستأتي بھ الأیام. رحم الله الأخ العزیز والزمیل النبیل الأستاذ محمد العصار الذي رافقتھ لخمس سنوات في جریدة الریاض، انتھت بمغادرتھ إلى الیمن عام 1991 بسبب أوضاع حرب الخلیج. كان الراحل أبو زیاد، ذا علاقات حمیمیة مع جمیع الزملاء، وصاحب كفاءة في العمل الإعلامي وإدارة القسم الثقافي كمدیر تحریر لھ.  )1( السوماني : السوداني الیمني )2( بھوان وكحلان : جبلان في الیمن
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق November, 11 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة