في السنين الأولي من عمر طفولتي إتخذت من مهنة راعي الأغنام و الأبقار متجولاً في وديان جبال أدولا و جبال كربجو و غابة كلكل ، جعلت من أبقاري مكان عزتي ، فخري ، معاشي ، مأكلي و مشربي و لدي القليل من الأصدقاء الذين أعمل معهم في مهنة الرعي و كلبين أسميتهما أربد و كارلوس يرافقونني في جولاتي نحو السروح و مطاردة الأرانب و دجاج الخلاء ،أشرب الماء من نفس الرهد الذي يشرب منه أبقاري ، اغنامي و حتي كلابي و ضكر حماري نارمي جمعينا نقف في صفوف شبه متساوية أثناء شرب الماء بعض الأحيان حماري نارمي يتبول قرب الماء الذي أشرب منه بأكفاف يدي و نشاهد البلورات و فقعات بول حماري نارمي التي تنساب من بين أرجلي ما علي الإ نغير طريق سير الفقاعات بايدي اليسري و أواصل ، جمعينا متسامحين مع الشروط التي فرضتها لنا البيئة و الطبيعة و حياة الكادحين البائسين و التهميش المنظم ، في منتصف فصل الخريف أرسلني والدي العزيز لمزرعتنا أوقي مراء المطلة الي جبل حجر جولي لطرد الجراد و الطيور التي تاتي لتأكل قندول الدخن و الذرة التي أجتهدنا و بذلنا طاقاتنا الجبارة في كل مراحل الزراعة لنري نور معاشنا في فصل الحصاد و طرد القرود التي لا ترحم الأخضر و اليابس خاصة البطيخ و الفقوس ، عند منتصف النهار (زمن القيلولة) قررت أن أذهب الي الجانب الأخر من المزرعة حيث مكان بطيخ كونقو و قصب العنكوليب ، وجدت بطيخة كونقولية سمينة ما علي الإ أبحث عن مكان نقعة مسطح و قوي من بين الرمال الكثيفة ، جلست منحياً مستنداً على ركبتي و رفعتُ البطيخة في بأعلي ما يمكنني و رميته بقوة بخ في الأرض حتي أنشقت الي نصفين وجدتها أحمر من حَمار نار جمر الشوى و عسلة كعسل النحلة البكرية بداءت أكل من عمق لبها و أتفل حبوب البطيخ بأطراف لساني الي الخارج من شدة لذة طعمها أصبح ماء البطيخة يجري كجريان السيل في ساعدي الأغبش حتي الكوع ثم يتدفق نحو الأرض في هذه اللحظات الطيبة أسمع صوتاً ينادي من ناحية الجبل هوي هاي هوي هاي ، رفعت راسي مخلوعاً و سئلت نفسي من يناديني في هذا التوقيت و في هذا الجبل الذي يقع في المكان النائي الذي لا يوجد فيه احد، هرولت الي مكاناً مرتفع استطيع منه رؤية الاشياء متجاوزاً كل الاشجار و غابات قش القندول الكثيفة التي تغطي كل المزرعة ،و لا زال الصوت ينادي هوي هاي هوي ، فوقفت فوق أعلي دبةً في المزرعة (اوقي مراء) لأشاهد ذكر تيقل (قرد) كبير قدر الثور يجلس في أعلي الصخرة عند منتهي الجبل و من خلفه يقف المئات من القرود منهم من يحمل طفله في تحت بطنه و منهم من يقفز من راس الصخرة الي صخرة اخري و فيهم من حامل بطفله ، وقفت متحيراً و سئلت نفسي كيف للقرود تنادي الناس و يتحدثون اللغة ، نظرت في وجه التقل الكبير و نظر عليا بقوة عين و قال هاي هوي قلت له نعم و اشر لي بيده اي بمعنى أذهب و نزل مسرعاً من الصخرة ، رفع زيله فوق و هرول ألي و من خلفه هرولت كل القرود مسرعين نحوي ،في هذه اللحظات ألتفت شمالاً يميناً لم اجد أدمياً أدي الطيور التي انتهزت فرصة اشغالي مع القرود و هجموا علي قناديل العيش بمزرعتي و أري الجراد الذين أخفوا أنفسهم بين أوراق الاشجار الخضراء لخداعي يزحفون زحفاً بالإقدام بدلاً من الأجنحة و طائر الغراب يجلس فوق الاشجار التي انطلقت منها الجراد يقول كواك كواك يبدوا أنه أراد ان ينبهني بان هذه القرود خطراً عليك عندما تفهمت بان الغراب اراد ان ينبهني بذلك ، جلستُ في الارض بأسرع ما يمكنني لربط حبال حذائ حتي أتمكن الخروج بالسلامة من هذه الذنقة و درست اتجاه المخرج الامن جيداً و أنطلقت بسرعة قذيفة الهاون نحو قريتي صنقورنا التي تبعد عن المزرعة حوالي عشرين كليومتر متجاوزاً الوادي الذي يفصل القرية مع الجبل الذي يطل لمزرعتنا اوقي مراء لم أتوقف الإ في باب منزلنا سئلتني والدتي ما حدث لك لماذا جاري كدا قلت لها يا أمي ضكر التقيل هاجمني مع أخوانه و جريت تركت لهم المزرعة في هذه الأثناء والدي رحمه الله يسمع حديثي من خلف راكوبته المصنوعة من القش و عيدان شجرة الكتر يتمدد في العنقريب ، ناداني يا بوج (بخيت) ماذا حصل؟ حكيت له ما حدث بالتفاصيل ، مسك الشهادة و قام مسرعاً و هرول نحو قطيته (غرفته) أخذ سلاحه كلاشنكوف روسي أبو دوال و اخذ ثلاثة كلوكولات زخيرة و ركبت معه في ظهر حصاننا الاسود ، هرولنا مسرعين الي المزرعة وجدنا التقول (القرود ) دمروا الاخضر و اليابس و شبعوا ، جميعهم نائمين و صغارهم يلعبون بالبطيخ و يتراشقون بالفقوس و يتجالدون (جلد) بسياط جزور البطيخ الإ كبيرهم (قائدهم) المتغطرس يجلس قربهم شامخ مرفوع الراس كانه هو من زرع هذه المزرعة و عندما أكتشف أننا قادمين نحوهم قال هوي هاي هو أرجع مشيراً بيده في هذه اللحظات جلس والدي بركبتيه و صوب سلاحه الذي لا يرحم نحو قائد القرود و عمره شات شك شرك قبل التصويب قامت جميع القرود من نومها مخلوعين مرعبين ، أحدى من أناث القرود جلست بطريقة جلسة البشر و حلبت لبن من ثديها في كف يديها و مدت يدها الملئ باللبن نحونا مما أجبر و جعل والدي يتراجع و أمن سلاحه قلت له لماذا هذه القردة تفعل ذلك أجاب والدي قال لي هذه القردة تقول لنا لا تقتلونا و انا أم لطفل إذا قتلتني سوف يتيتم صغيري قلت له اوكي أتركهم ليعيشوا و لكن أقتل كبيرهم المعلون الذي أرعبني قال والدي لا قلت له لماذا قال لي إذا قتلناه سوف نيتم كل هذه القرود ،قلت له كيف ؟ قال هذا القرد الاكبر ملكهم وهو الاب الروحي الذي يقوم برعايتهم و حمايتهم في المفترسين و يوجههم الي أماكن الكلأ و الشرب لهذا قمنا بطردهم من المزرعة و تركناهم بارواحهم و حريتهم ؟ هكذا قضيت أجمل أيام الطفولة أنذاك و لكن في نهاية الامر سلبت تلك الذكريات بقوة السلاح و لم تبقي الإ الأحزان من اللحظة التي أتت الملاعين من عفاريت العسكر مدججين بالسلاح علي ظهور عربات الورل و المجروس الروسي و من خلفهم جنجويد يمتطون علي ظهور الخيول و الجمال قضوا علي الأخضر و الياس و قاموا بخراب كل قود حياتنا و حرقوا قريتي الجميلة (حلة صنقورونا ) و قتلوا والدي مع كثير من أولياء (أباء) أصدقائ الرعاة و المزارعين و دمروا مزرعتي أوقي مراء ،نهبوا أبقاري و حصاني الاسود مع صغيرتها و طردوا كل الطيور الحرة التي كانت تحلق فوق سماء صنقورونا و قتلوا ضكر التقل(القرد) و هجروا الأهالي الي معسكرات النزوح و حتي القرود الذين فقدوا قائدهم و مرشدهم لم يسلموا من الهجرة ما تبقي من تلك الذكريات الإ دخان البارود و الرماد و الغراب الذي يجلس متحيراً جوار أشلاء من الجثث. لا زال هذا الموقف يراودني و يلازم ذاكرتي و أتساءل لماذا قام الجنجويد بقتل ذلك الوالد الحنون الرحيم الذي قام بحمايتنا و تربيتنا و رعايتنا لعشرات السنين و صلبوا مننا حق الابوة ؟
الم يكفيهم سرقة أغنامي و أبقاري التي عشت بفضلها عزيزاً فخوراً؟ الم يكفيهم حرق مزرعتي و منزلي التي قضيت فيها اجمل ايام طفولتي و يكفيهم سلب ذكريات طفولتي ؟ لم يكفيهم كل ذلك بل قاموا بسلب حرية و روح ذلك الوالد الرحيم الذي كان يرأف حتي بالحيوانات (القرود )
رغم فقدان الاب و ذكريات الطفولة الإ أنني لا زلت معجب بموقف الانسان الذي اعطي الرحمة للقرود و حزين غاية الحزن بموقف الانسان الذي تحول الي الجنجويد و عفريت العسكر الذين قتلوا راحم القرود و أتساءل هل كلاهما من سلالة البشر أم عادي جداً بعض البشر يتحولون الي الذئاب مفترسين لقتل الذين احتفظوا بأدميتهم الانسانية و أعطوا حتي حرية الحيوان الذي تعدي علي معيشة صغارهم الكادحين .
Bakhet Mohammed Jumma 🖌🖊📝
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق September, 09 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة